محمد سامي الكيال  محمد سامي الكيال

الكتاب... بعيداً في «مدينة» المعارض

معرض الكتاب في نسخته الخامسة والعشرين كان مختلفاً عما ألفه الكثير من رواده ومتابعيه، ربما لأنهم تعودوا على مظهر  رفوف عرض الكتب المتزاحمة على خاصرة مكتبة الأسد في ساحة الأمويين، ولم يستسيغوا فكرة قطع مسافة 20 كم للوصول إلى مدينة المعارض، في رحلة تستغرق ثلث الساعة على الأقل، حتى لو كانت الحافلات التي ستنقلهم إلى هناك مجانية.

 

المشرف على جناح إحدى دور النشر اللبنانية قال بحسرة:  «عندما كان المعرض في وسط المدينة كان الإقبال عليه أكبر... وإذا لم يرجع المعرض إلى دمشق فلن نعود إلى هنا في العام القادم».

«وسط المدينة»... تعبير لم يعد يحمل لأسماعنا الكثير من الدلالات، باستثناء معناه المكاني المباشر، ولذلك يستحق منا ذلك الشيخ البيروتي الحانق الكثير من الامتنان، لأنه قد ذكَّرنا دون أن يدري بما نسيناه طويلاً!

 

وسط المدينة الخاوي

في الواقع لا يمكننا أن نعتبر انتقال المعرض من وسط دمشق إلى خارجها حدثاً استثنائياً أو غريباً، ليس بسبب تدشين مدينة المعارض خارج دمشق منذ سنوات طويلة، بل لأن المكان الذي يفترض به أن يكون القلب الثقافي والاجتماعي والتجاري للعاصمة، والحاضن الأساسي لحيوية المجتمع ومظاهر حياته المدنية، قد أفرغ (هل نقول: بشكل منهجي؟!!) منذ سنوات طويلة من كل معالمه المميزة، وتعرض لطمس الكثير من ملامحه المألوفة.

فبعد أن أغلقت معظم مكتباته الكبرى أبوابها، وانقرضت الكثير من مقاهيه وباراته العريقة، وكادت المسارح ودور السينما فيه أن تموت بالشيخوخة، وطرد الفنانون التشكيليون منه شر طردة بعد أن هدمت أكشاكهم الشهيرة... سقط وسط مدينتنا ومدنيتنا بالضربة القاضية، ليكون ذلك السقوط شاهداً على مأساة مجتمع كامل أعيقت مسيرة تطوره المدني، ومنع من امتلاك وسائل التعبير والنشاط المدنية. وعلى مأساة مدن حرمت من حقها في أن تبقى مدناً.

لم تصدر في سورية في الفترة الواقعة بين معرضين للكتاب سوى خمس عشرة رواية، أما عدد النصوص المسرحية الجديدة فهو لا يزيد عن ذلك كثيراً. هنا يحق لنا أن نتساءل: أليست الرواية والمسرح أبناءً شرعيين للمدينة، ظهرا بظهورها، وينحدران بانحدارها؟  

ضمن هذا السياق يغدو نقل معرض الكتاب إلى خارج دمشق مجرد تحصيل حاصل، لا نقول إن في الأمر تدبيراً ما، ولكن هذا النوع من النشاطات الثقافية لم يعد عضوياً في مجتمعنا ومدننا بعد كل ما تعرضت له في العقود الماضية، وبالتالي صار من الممكن «رميه» أينما كان، وإبعاده عن موضعه الطبيعي في الأمكنة التي يفترض أنها مركز الثقل الاجتماعي والثقافي.

 

 لماذا تركنا الكتاب وحيداً؟

«كل هذه العناوين لا تجذب أحداً!!»

هذا ما قاله بسخرية ومرارة مندوب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» لمراسل جريدة «الحياة» وهو يشير إلى الكتب العديدة والهامة التي يحفل بها جناحه في المعرض.

هل نلوم في ذلك دور النشر التي رفعت أسعار كتبها حتى صارت أعلى بكثير من القدرة الشرائية للمواطن السوري؟ أم نلوم وسائل الاتصالات الحديثة التي جعلت مكانة الكتاب ثانوية ضمن ترتيب الوسائل التثقيفية التي تعتمد عليها الأجيال الجديدة؟

كل هذه مبررات وجيهة بلا شك، ولكنها ليست العامل الأساسي في فقدان الكتب الجيدة لجاذبيتها وإغرائها.

نظرة سريعة على معظم العناوين «الجذابة» ستبين لنا أنها تتمحور حول قضايا ومفاهيم يعتبر إطلاع المواطن السوري عليها مجرد ترف فكري لا يطلبه إلا المترفون حقاً... فما معنى «الحداثة» و«التنوير» و«ما بعد الحداثة» في مجتمع لا مدني؟!! وهل لهذه المفاهيم أية ضرورة؟!!

من جانب آخر شهد المعرض إقبالاً كبيراً على نوع آخر من العناوين «الجذابة»، إحدى الدور المشهورة بطباعتها للكتاب الديني (على الطراز السلفي) حجزت قسماً كاملاً من المعرض يضم العديد من الأجنحة، وشهد هذا القسم إقبالاً لافتاً. وقد برر أحد الناشرين الحظوة التي تتمتع بها تلك الدار بـ«الاتفاق الفكري بين مديرها ومدير المعرض»!!

الكتاب في منفاه كان وحيداً، والاحتفال باليوبيل الفضي لمعرض الكتاب السوري والعربي كان مأساوياً، لن نطالب من جهتنا بإعادة معرض الكتاب إلى وسط المدينة، بل على العكس من ذلك، نعتقد أنه من الأنسب والأكثر تعبيراً عن أوضاعنا أن تجرى الدورة القادمة من معرض الكتاب (تشجيعاً للسياحة) في صحراء تدمر مثلاً، أو على سفوح القلمون قرب صيدنايا!!