مثقفو «آخر نشرة أنباء»
من أدق التوصيفات التي تعبر عن البلادة المعرفية -السياسية السائدة في بعض الأوساط الثقافية والإعلامية السورية، ما قاله أحد كبار الروائيين في معرض توصيفه لحالة المثقفين العرب: «المثقف العربي يحدد موقفه من الأحداث، حسب آخر نشرة أخبار استمع إليها».
شهد الوسط الثقافي والإعلامي السوري، مثل هذه الظاهرة وبشكلها الفاقع خلال سنوات الأزمة، حيث أخضع هذا النموذج في ظروف الأزمة السورية، كل بلاغته، وكل أشكال ظهوره الإعلامي، المرئي، والمقروء، والمسموع، للهاث وراء الموقف اليومي، وترويج موقف الجهة التي اصطف معها في الصراع الدائر، ومع التغير السريع في الأحداث، اضطر هذا النموذج من المثقفين على الدوام، أن يناور، ويراوغ، ويلعب على الألفاظ، في خطاب ذرائعي، تبريري، حمّال أوجه، ليبرر سلوك ومواقف قوى الخندق الذي تمترس فيه.
كهّان الأزمة هؤلاء، سواء كانوا من بعض اللذين مع النظام، أو مع نقيضه المفترض المعارضة، وكل من موقعه، أنتجوا نمطاً بائساً من الخطاب، وراحوا يكررونه على مدى سنوات الأزمة العجاف، بالمفردات والمقولات ذاتها، وبالأضاليل عينها، متكئين على مفاهيم لها حضورها في الوعي الجمعي السوري، كـ«الوطن» و«الثورة»، وعلى البعد الأخلاقي، ومحاكاة العالم الشعوري للإنسان السوري المثقل بتبعات الحرب المفروضة عليه، قتلاً، وخطفاً، وتهجيراً، ونزوحاً، لتسويق مواقفهم، حيث رأو فيه مجالهم الحيوي، فالدم السوري كان حاضراً دائماً في المرافعات البائسة، في محاكم الكهنة، كلٌّ يدعي بالحرص عليه، دون أن يعمل أحد منهم فكره في كيفية إيقاف هذا النزف المستمر، ودون أن يكلف أحد نفسه عناء الإجابة عن السؤال حول المخرج الصحيح من الكارثة.
إن أي فعل ثقافي حقيقي، حتى يحقق شرط وجوده، ومبررات بقائه، يجب ألا يبقى أسير توصيف الوقائع، وتعدادها، وبالأخص إذا كانت وقائع مقولبة تضخ في البنية المجتمعية المزيد من الانفعالات، والحالات العصبية، وتؤسس لتفشي نزعة الثأر والانتقام، بل يجب أن يكون ديدنه، هو البحث عن الحلول والمخارج الحقيقية، وإلا فأنه أبعد ما يكون عن الفعل الثقافي، وأقرب إلى التهريج، والشوباشات، و تتحول إلى أدوات ترويج لمواقف سياسية، سرعان ما تكشف الوقائع الملموسة على الأرض عقمها.
والأنكى من هذا كله، توافق العديد من «فرسان الثورة»، و«خيّالة الوطنية» على الحل السياسي، تشكيكاً به، أو تجاهلأ له، أو تشويهاً لمواقف أنصاره، أوتيئيساً وإحباطاً فيما يتعلق بإمكانية الوصول إليه، ليكملوا بتوافقهم أحد جوانب مأساتنا، في تلويث العالم الروحي للإنسان السوري، ويؤكدوا على وحدة الفضاء الثقافي القديم في البنية والتكوين، بغض النظر عن اصطفافاتهم.