أوراق «شاهندة مقلد» .. وأسئلة ما حدث ويحدث في مصر؟؟
قليلة هي الكتب التي تستولي علي اهتمام القارئ من الصفحات الأولى، فيترك كل ما بين يديه من قراءات أخرى، حتى يكمل القراءة. وأقل هي الكتب التي يحس القارئ بعد قراءتها بتمعن وعمق، أنه يجب أن يكتب عنها. وهذا ما حدث لي مع كتاب «من أوراق شاهندة مقلد» من إعداد «شيرين أبو النجا» الصادر عن دار نشر «ميريت» عام ????.
ما كدت أقرأ الصفحات الأولى، حتى وجدتني مشدودا للكتاب، فتركت ما بين يدي من قراءات في «الهرمنيوطيقا»، وفي بعض الدراسات الصادرة حديثاً في مجال «الدراسات القرآنية»، لأكمل قراءة هذا الكتاب. بعد أن انتهيت من القراءة، قررت أن أكتب عنه لأشرك معي القارئ تجربة قراءة هذا الكتاب المهم، وهذا استدعى قراءة ثانية.
الكتاب يحكي بالوثائق قصة «كمشيش»، وهي قرية من قرى محافظة المنوفية شهدت أحداثاً «دامية» في الستينيات من القرن الماضي على وجه الخصوص، وهو بامتياز عقد التحول الاشتراكي، والقضاء علي الإقطاع، أو بالأحرى علي بقايا الإقطاع وذيوله، بعد أن تبين لقادة «حركة يوليو» أن قانون الإصلاح الزراعي، الذي صدر في الخمسينيات تم التلاعب به بالالتفاف عليه بوسائل شتى. كانت أحداث «كمشيش»، التي شهدتها وشاركت فيها «شاهندة مقلد» بالسجن والإبعاد والدم، وفيها استشهد زوجها «صلاح حسين» برصاص الإقطاع، هي التي كشفت حقيقة أن «الإقطاع» لا يزال قوياً وحاكماً، رغم مرور سنوات عشر على قيام الثورة. الخيط الذي شدني في الكتاب؟، هو سؤال: «ما الثورة؟»، وما الفرق بينها وبين الانقلاب؟ وهل كانت حركة الضباط الأحرار في يوليو ثورة أم انقلاباً؟
هذا الكتاب يكشف - بشكل ضمني - عن الفارق بين «الانقلاب» و«الثورة»، فما حدث في قرية «كمشيش» كان بكل المقاييس «ثورة»، قادها شباب متعلمون من أهل القرية. من خلال مقاومتهم لسيطرة الإقطاع في القرية، وقد وجد هؤلاء الشباب في حركة «يوليو»، نموذج الثورة الوطنية، «الثورة الأم»، والتي لابد أن تكون «حاضنة» وحامية لثورتهم. فهل كان الأمر كذلك؟
تكشف «أوراق شاهندة مقلد» أن «يوليو» كانت انقلاباً من أعلى، دون أن تستطيع إحداث أي تغيير يذْكَر في هذه البنية التقليدية.
كان قادة الحركة يعيشون طموحاتهم وأحلامهم في الخُطَب ومن على منابر المؤسسات السياسية التي أنشؤوها - هيئة التحرير، الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي العربي - دون أن يدركوا أن هذه المؤسسات السياسية ركبها الجهاز الإداري بكل بيروقراطيته، فالمؤسسات ذات الواجهة الحديثة والمضمون التقليدي تعجز عن حمل أحلام شباب الحركة...
لهذا اصطدم شباب «كمشيش» بجهاز الإدارة بكل مستوياته من ضابط «النقطة» و«مأمور القسم» و«المحافظ»، بل وأمناء التنظيمات السياسية في «المنوفية»، حين أرادوا أن يعملوا في إطار هذه المنابر الشرعية.
إلى أي حد استطاعت الشرعية الثورية لأبناء «كمشيش» وفلاحيها أن تخترق هذه السدود والموانع الإدارية العتيدة التي تتحرك باسم نفس الشرعية وإن على مستوى الوطن، أي باسم «الثورة الأم»؟. في حالات كثيرة كان على أبناء الثورة «الصغرى» أن يستغيثوا برجال «الثورة الأم». أرسلت الثورة الأم بمبعوثها «محمد أنور السادات» - ابن المنوفية - لينقذ الوضع المتردي في القرية، فحاول أن يحقق ذلك، وهو في ضيافة «القصر» في كمشيش، وكان من الطبيعي أن يرفض ثوار كمشيش ذلك.
استطاعوا أن يوصلوا صوتهم إلي زعيم الثورة «عبد الناصر»، فتَكَرَّم على «كمشيش» ونضالها ضد الإقطاع بجملة ألقاها في خطابه في «شبين الكوم بعد مقتل «صلاح حسين». أشار «عبد الناصر» إلى هذه الجريمة في خطبة أخرى، لكن التحقيق في القضية تباطأ، وتمتع القتلة الحقيقيون بالبراءة القانونية. ما أسهل ما يدرك الإنسان من القراءة الدقيقة لأوراق «شاهندة مقلد» أن الثورة الأم ساندت ثورة كمشيش مساندة قولية بلاغية، أي مساندة بالكلام. ويكاد المرء يصل إلي استنتاج، فحواه أن «ثورة كمشيش» كانت تمثل بالنسبة للثورة الأم «تطرفاً» يجب مقاومته!
ولكن لأن «ثورة كمشيش»، كانت ثورة حقيقية فقد كانت عَصِية علي التدجين. كان أبناء «كمشيش» من خلال بياناتهم يحاولون «تصحيح» مسار الثورة الأم، ذلك المسار الذي بدأ في التدهور عقب هزيمة «يونيو ????». ما كان مضمراً صار صريحاً، ولهذا ثار الطلاب ضد «عبد الناصر» في
هل كانت «ثورة التصحيح» التي قادها السادات عام انقلابا علي ، أم كانت تطورا طبيعياً لها في سياق المتغيرات الإقليمية والدولية؟ هذا سؤال تجيب عنه «أوراق شاهندة مقلد» بوضوح. كان هذا الانقلاب الجديد انقلابا للاستيلاء علي السلطة من أعلى الهرم، ولقد كان انقلاباً سهلاً وميسوراً. ومن أجل «استقرار» هذا الانقلاب الجديد، وتدعيم أسس السلطة الجديدة، كان لابد من تصحيح مسار «انقلاب » بالتحالف مع القوى الداخلية القديمة - الإقطاع في صيغته الجديدة، الرأسمالية التابعة، والإخوان المسلمين - والخارجية الأقوى: أمريكا والمملكة العربية السعودية. لم تكن هذه نهاية ثورة كمشيش وحدها، بل كانت نهاية الأحلام التي أثارتها وغذتها شعارات ، دون أن تكون قادرة علي تحقيقها.
نجاح الإخوان المسلمين الذي أثار ويثير خوف الجميع، يجب أن ينْظَر إليه من خلال المساحة، التي أتيحت لهم للعمل وسط الناس واستثمار عواطفهم الدينية. الشعب كان قد ترك في العراء، فاستطاع الإخوان بمساعدة انقلاب أن يكونوا «الغطاء».