فرديريكو غارسيا لــــوركــــــا: شاعر الفضة والقمر والموت
رغم مرور خمسة وسبعين عاماً على مقتل لوركا برصاص الفاشست في التاسع عشر من آب عام 1936 إبان الثورة الإسبانية وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، ما زال حياً في الأذهان بقصائده، ومسرحياته خاصة الثلاث الشهيرة: عرس الدم، يرما، وبيت برناردا ألبا.
ومنذ سنوات والبحث جار عن المكان الذي دفنه فيه قتلته، في البرية المحيطة بمدينته غرناطة دون جدوى. آخر تلك المحاولات كانت في أواخر تشرين الأول من عام 2009 حين قام مجموعة من أساتذة الآثار والتاريخ من جامعة غرناطة، بالتنقيب في منطقة «الفقار» Alfacar القريبة من غرناطة في موقع تحدث عنه المؤرخ المعروف إيان جيبسون عام واحد وسبعين في كتابه «اغتيال غارسيا لوركا». كما ادعى أحد الأشخاص أنه ساهم في حفر قبر في الموقع نفسه، ليواري لوركا مع ثلاثة رجال آخرين قتلوا معه. وبعد إجراء الحفريات تبين أن المنطقة صخرية يصعب أصلاً حفر قبر فيها، كما لم يتم العثور على أي بقايا بشرية. وبقيت إسبانيا تحلم بأن يكون لأعظم شعرائها، الذي يقف تمثاله في أشهر ساحات العاصمة مدريد، قبر يزوره عشاق شعره ومسرحه.
الآن يبدو أن الأمل في العثور على رفات لوركا عاد ليتجدد، إذ نشر كتاب جديد لباحث إسباني هو ميغويل كاباليرو بيريز، يحمل عنوان: «الساعات الثلاث عشرة الأخيرة لغارسيا لوركا». إذ قام الباحث، على مدى ثلاث سنوات، بدراسة السجلات التابعة للشرطة والجيش الإسباني في ثلاثينيات القرن الماضي، لمعرفة تفاصيل الثلاث عشرة ساعة الأخيرة في حياة لوركا، والكشف عن هوية رجال الشرطة والمتطوعين الذين قتلوه مع ثلاثة سجناء آخرين، وطبعاً، معرفة الموقع الذي دفنوه فيه. يُحمّل الباحث المسؤولية عن قتل لوركا للمنافسة السياسية والتجارية بين كبار الأسر الغنية في غرناطة ومن ضمنها أسرة الشاعر نفسه. خاصة وأن لوركا نشر مسرحيته «بيت برناردا ألبا» قبل فترة قصيرة من موته، مستوحياً شخصيتها الرئيسية من أسرة منافسة لأسرته، هي أسرة رولدان، فأغضبها ذلك وأقنعت السلطة الموالية لفرانكو في غرناطة بملاحقة الشاعر وقتله. بل يقول الكتاب إن أحد أفراد تلك الأسرة كان ضمن من أطلقوا النار على لوركا ورفاقه.
ركز ميغويل بيريز، في بحثه على الأرشيف وليس على شهود العيان الذين قد تخونهم الذاكرة، واهتم بشكل خاص بالمعلومات التي جمعها في ستينيات القرن الماضي صحفي إسباني، كان عضواً في حزب الكتائب التابع للجنرال فرانكو، اسمه إدواردو مولينا فاجاردو، الذي كان ملماً بالكثير من الحقائق بسبب انتمائه السياسي، وأورد في كتاباته الموقع الذي دفن فيه لوركا. خندقٌ حفره باحث عن الماء في مكان يبعد قليلاً عن الموقع الذي تم الحفر فيه عام 2009.
ولد لوركا لأسرة ميسورة الحال على مبعدة بضعة أميال من غرناطة، وكان والده تاجراً يمتلك أراضي زراعية ومزرعة في المنطقة المحيطة بالمدينة، وحين بلغ الحادية عشرة من عمره، انتقلت الأسرة للعيش في فيلا كبيرة وسط المدينة. والدته كانت معلمة وعازفة بيانو ماهرة. ومنذ طفولته المبكرة أحب المسرح والموسيقا الكلاسيكية وتعلم العزف على البيانو. مرحلته الشعرية الأولى تميزت بالشعر الموسيقي، ونشر أول دواوينه الشعرية عام 1921. أحب الموسيقا الإسبانية خاصة موسيقا الفلامينكو وعمل مع العديد من الموسيقيين الإسبان لتطوير هذا الفن مسرحياً. كما استهوته التقاليد الأندلسية بخيولها وموسيقاها وغجرها. كان يرفض أن ينظر إليه على أنه شاعر غجري: «الغجر هم موضوعة للشعر لا أكثر، وكان يمكنني أن أستبدلهم بإبرة الخياطة أو المراعي الخضر، ثم إن هذه الصبغة الغجرية تجعلني أبدو جاهلاً غير متعلم أو متحضر، وهو أمر لا ينطبق علي. أنا ببساطة لا أحب الأدوار المرسومة».
همٌّ آخر كان يؤرق لوركا هو مثليته الجنسية التي لم يحاول إخفاءها، لكنها كانت جزءا مهماً من حياته وشعره، حتى أن البعض يرى أنها كانت أحد أسباب الخلاف بينه وبين الرسام السريالي الشهير سلفادور دالي، بعد أن كانا صديقين مقربين، حتى أن دالي أعد له ديكورات ثاني مسرحياته «مارينا بينيدا» التي استقبلت بحفاوة بالغة في برشلونة. لكن الصداقة تصدعت مع ازدياد تعلق لوركا بدالي وظهور المرأة التي تزوجها دالي في ما بعد. ثم وصلت العلاقة إلى نهايتها حين تعاون دالي مع المخرج لويس بونيل لصنع فيلم مشترك عام1929 بعنوان «كلب أندلسي» فاعتبر لوركا ذلك نوعاً من التهجم عليه شخصياً. سافر لوركا في العام نفسه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى مدينة نيويورك حيث دخل دورة لتعلم اللغة الإنكليزية. وقد نشرت مجموعته الشعرية «شاعر في نيويورك»، عن تجربته الأمريكية بعد وفاته عام 1942 وجاءت مختلفة تماماً عن أشعاره السابقة، فقد ضمنها رؤيته للحياة الأمريكية بكل بعدها عن تجاربه الأندلسية حتى أنه تحدث فيها عن «الكساد العظيم» الذي كان شاهداً عليه.
عاد لوركا إلى إسبانيا عام 1930 مع عودة الجمهورية. وفي العام التالي عُين مديراً لفرقة مسرحية جامعية كان عليها أن تدور في القرى النائية لتقدم أعمالها التي كان يخرجها مسرحياً، ليرى من لم يشاهدوا المسرح في حياتهم أعمالاً مسرحية من التراث الإسباني بأسلوب معاصر. كتب يقول عن تجربته تلك: «المسرح مدرسة للبكاء والضحك ومنبر حر لمناقشة كل الظواهر والمسلمات وتقديم كل خفقات القلب البشري».
في صيف عام 1936 كُلفت مجموعة من الرجال منحوا خمسمئة بيزيتا (العملة الإسبانية) ليطلقوا الرصاص على أصحاب الفكر اليساري، وكان لوركا واحداً منهم. أنهوا مهمتهم التي كلفوا بها على أكمل وجه وردموا جثث القتلى بالتراب. لم يخطر على بال أحدهم أنه يقتل مواطني بلده ويقتل فيهم فكراً وفناً وشعراً ومسرحاً سيبقى حياً على خشبات المسارح حول العالم يردده ممثلون عبر الأجيال بكل اللغات ويصفق له جمهور من مشارق الأرض ومغاربها. القتل جريمة بشعة هذا أمر لا يقبل النقاش، فما بالك إن كان القتل بحق فريدريكو غارسيا لوركا.