ضريبة من نوع جديد
«الحكي ما عليه جمرك» و«الحكي ببلاش» جملٌ شائعة، تعكس النظرة العامة للكلام كنشاط مسالم، وغير مؤثر، أو كبضاعة تنتقل من فم شخص إلى أُذن آخر مجاناً ودون حواجز، و من المنطلق ذاته ينظر لــ«الأقوال» و «الأفعال» كنشاطين منفصلين، لا جامع بينهما.
لكن هل حقاً الأقوال ليست أفعالاً؟ وهل كل أنواع الكلام يجب أن تمر دون ضريبة أو رقابة؟
في زمن الأزمات يتحول الكلام إلى نشاط مؤثر لأن الأفراد يكونون أكثر تهيؤاً لاستقبال الأفكار وتمثلها نتيجة الضغط والخوف، وهذا ما جعل من الشائعات والأخبار الكاذبة وسيلة ناجحة في الحرب النفسية عبر التاريخ، وهذا ما يؤكد أن الكلام ليس مجرد كلام وإنما فعل مقصود وواعٍ يبنى على اتخاذ القرار بالتعبير عن الأفكار والمخاوف شفاهةً وإخراجها للعلن.
وسورية اليوم بيئةُ خصبة للكلام، كلامُ في الشوارع والبيوت والمقاهي والبقاليات.. الجميع يتكلمون، يتحاورون، يتخاصمون، وبالرغم مما يدلل ذلك على تغير عميق وإيجابي في طبيعة العلاقات بين الناس و حضور السياسة والشأن العام بقوة كموضوع جوهري لا ينسى ، إلا أن لذلك أيضاً مساوئه عندما يفقد الأفراد رقابتهم الذاتية عما يقولون ،و تنطلق الكلمات لتحفر خدوداً عميقة في المجتمع.
الطائفية مثلاً نالت حصتها من حديث الناس وكانت المثال الحي لما يمكن للكلام والأحاديث أن تفعله في زمن الأزمات. بدأ حديث «الهلع من الطائفية» على ألسنة الناس وبعض صفحات الإنترنت في الأيام الأولى من الحراك في سورية قبل وجود مبرر فعلي يستدعي القلق، ربما كان منطلقهم في ذلك التأكيد على وحدة الصف الوطني، إلا أن الكلام الكثير والتحذير من شبح الطائفية ذكر بمثل «إلي بيخاف من العفريت بيطلعلو».
ومع تعقد الظروف والأحداث وتناقض الروايات والأخبار، وعمل بعض وسائل الإعلام الوطنية والخارجية على تكريس هذا النمط الطائفي من التفكير من خلال تقسيم سورية جغرافياً و إقليمياً، وذكر إحصاءات حول أماكن توزع المذاهب والطوائف فيها، بدأت التعليقات الطائفية تتسلل إلى أحاديث الناس وتأخذ مكانها كحقائق أو أقدار.
وبدأت بعض الجمل تتردد كثيراً على ألسنة الناس مثل «مو قصدي كون طائفي بس الحقيقة أنو..».. «ما بحب إحكي بطائفية بس..».
لم يعلم أصحاب هذه العبارات أنهم بمجرد نطق كلماتهم تلك يكرسون ثقافةً جديدة، ويخلقون نمطاً من التفكير يقوم على اعتبار المجتمع كيانات منفصلة مذهبية وعشائرية.
لا يمكن نكران أن الأفراد قد يلجؤون للانتماء الطائفي زمن الأزمات تحديداً رغبة في أن يكونوا جزءاً من جماعة متجانسة تشعرهم بالأمان عند غياب ما يشعرهم بإمكانية الانتماء لجماعة أكبر قائمة على أسس أخرى. وبالتأكيد هنا يساهم الحديث بشكل طائفي في تكريس المشكلة وعرقلة انتقال الأفراد من الانتماء الضيق لجماعة أو مذهب إلى الانتماء للوطن ككل.
لابد من إعادة النظر للكلام كنشاط مؤثر وهام، فالامتناع عن الكلام بطريقة طائفية يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوطها وتحولها من قدر محتوم إلى مجرد سيناريو غير منفذ. و بالمقابل تضمين العبارات الطائفية يكرسها كواقع لا مفر منه.
في زمن الأزمات لا بد من فرض الضرائب، والرقابة الشديدة على الكلام، لا بد من إدراك المسؤولية الفردية والجماعية، واستعادة هناء العيش السوري المشترك.