رواية «وطن من زجاج»! ثورة على الديكتاتورية.. وإدانة للقتلة الرسميين!
عندما قرأت ـ قبل عامين تقريبا ـ روايتها الأولى "بحر الصمت"، تفاجأت كثيرا بتلك اللغة الغارقة في الشعر والثورة والإدانة الصريحة وبذلك النفس الأدبي الذي فتحني مرة أخرى على عالم الأدب الجزائري الحديث المكتوب باللغة العربية. ياسمينة صالح من جيل الاستقلال. جيل لا «يعرف الاعتذار» كما تقول على لسان بطلها السابق في رواية بحر الصمت.. جيل يتيم جدا في وطن ينهار ويتكسر أمام أعين أبنائه، كما تقول على لسان بطلها الثاني في روايتها الجديدة وطن من زجاج. ياسمينة صالح لا تعترف بالمقدمات أيضا، وتعتبر التاريخ قالبا جاهزا للتزوير والتشويه إذ ليس هنالك حقيقة مجردة داخل تاريخ يكتبه أولئك الذين يزيفون الوطن أساسا، ويضحكون على الشعوب ويقتلون أحلامهم بالجملة أوبالتقسيط. والتاريخ الذي يكتبه الشهداء لا يمكن قراءته خارج الشهادة التي يختارونها. بهذه التلميحات الثورية، وبلغة شاعرية وثائرة تفتح لنا الأديبة الروائية الجزائرية ياسمينة صالح باب الدخول إلى الأدب الجزائري الراهن بعبارة: وطن من زجاج!
لعل القارئ في المشرق العربي تحديدا التقى عبر الانترنت بنصوص متفرقة للكاتبة الجزائرية ياسمينة صالح، ولا أنكر شخصيا أنني توقفت كثيرا ذات مرة أمام نصها الذي احترت أين أضعه ضمن التصنيف الأدبي بين الشعر والنثر، وهي التي أسمته لوحة أدبية كي لا تتورط في الدخول إلى معارك أدبية مجانية، ولكن نصها «رسالة اعتذار إلى الرئيس بوش» كان لوحة أدبية مدهشة، يعكس حالة الثورة والصراع الداخلي بين ما هو كائن وبين ما هو مفروض، بحيث أنها صرخة امرأة في واقع سلبي ومستسلم وانهزامي أيضا.. كان ذلك النص الأدبي نافذة دخولي إلى عوالم ياسمينة صالح الأدبية قبل أن أقرأ روايتها بحر الصمت التي سمعت أنها ترجمت إلى اللغتين الفرنسية والاسبانية. ما يجب التوقف عنده هو أن لياسمينة صالح حضور أدبي ملفت ومدهش، وغير صاخب في نفس الوقت. هي الأديبة الجزائرية التي تعي أنها تكتب في وطن استثنائي في انكساراته منذ الاستقلال السياسي إلى يومنا هذا. وطن يأكل مبدعيه بكل الأشكال ومع ذلك تصر على «لعنة الكتابة» وتعتبر أن البقاء داخل الوطن جزء من تلك اللعنة التي تشبه القدر والتي لا يمكن التخلص منها إلا بالموت! لهذا تبدو عناوين ياسمينة صالح مرادفة لكل تلك التناقضات التي تحاول أن تطرحها أمامنا. فبحر الصمت كان حالة صراع بين جيلين، جيل الثورة وجيل الاستقلال الجزائري. صراع نكتشف متعته في تفاصيل الرواية بحيث أننا لا نملك غير الانتباه إلى تلك اللعبة الخطيرة التي تمارسها أمامنا الأديبة حين تعلن أن لا مكان لغير الوطن، وأن الوطن سرقوه منا أيضا. فهي صورة تعكس الإسقاطات التي تحرق أصابع الكاتبة وتحرق أنفاس القارئ معا وتصر في كل رواية على عبارة «نحن أيتام هذا الزمن الكئيب». إنها العبارة التي تكررت في الكثير من النصوص التي كتبتها ياسمينة صالح. بحر الصمت مثلا صورة جميلة وحزينة لواقع الجزائر بعد الاستقلال، لصراع بين جيلين، جيل الثورة وجيل الاستقلال، وبين حلم وسلطة قمعية لا تعترف سوى بالقوة وبالإرهاب السياسي وديكتاتورية البقاء في السلطة على جثث البسطاء والفقراء. ولهذا لا أحد ينتصر في النهاية، بل يتحول المشهد إلى واقع بعينه ضمن خارطة مرادفة للجرح المزمن. هذه التراكيب التراجيدية في عالم الرواية لدى ياسمينة صالح نكتشفها بشكل مغاير اليوم في روايتها الجديدة: وطن من زجاج الصادرة عن الدار العربية للعلوم ببيروت. فالعنوان يبدو مركبا. الوطن والزجاج. ولأن الراهن يميل إلى الاعتقاد أن العنوان واقعي إلى أبعد الحدود، نجد أنفسنا ندخل إلى ذلك الوطن الزجاجي لنكتشف ملامح جيل آخر أكثر تعبا وفقدانا للهوية والأمان.. جيل تقول عنه ياسمينة صالح إنه جيل المجزرة والقتل اليومي وسرقة الأحلام والإهانة الرسمية التي تمارسها الدولة ضد البسطاء والفقراء. فكيف نطلب من العالم أن يحترمنا حين لا يحترمنا حكامنا، وحين لا يحترمنا جيراننا، وحين لا نحترم أنفسنا أساسا. تقولها بلغتها المدهشة. إنها المقاربة الجميلة بين الواقع والموت، بين الخير والشر أمام أعين هذا الجيل الذي تعتبره السلطة «غاشي» ـ وهو مصطلح يستعمله الجزائريون ليعنوا به «قطيع الأغنام» ـ ولأن الضغوطات الداخلية كبيرة، حدث الصدام بين الحياة في قمة عريها من جهة ومن جهة أخرى بين الوطن/ في قضية سياسية معقدة يثيرها بطل الرواية وهو صحفي يعايش موت زملائه وأصدقائه وكل أحبابه. لأول مرة تبدو الرواية بعيدة عن إدانة الإسلاميين، فياسمين لا تتهم من يصفون أنفسهم بالإسلاميين، بل تذهب إلى حد إدانة السلطة نفسها بأنها تقف وراء ذلك الجحيم لإبادة هذا الشعب تحت تسمية الأرض المحروقة، لأجل ألا يكون ثمة من يطالب بحقوقه، ومن يطالب بالمساواة على أرضه ولتذهب إيرادات البترول إلى القتلة الرسميين دون أن يحاسبهم أحد! فالإرهابي في منظور الرواية هو السلطة، بكل ما تعنيه الكلمة من مؤسسات هشة ومن سياسة قمعية وديكتاتورية تحاسب الفقير على بقائه حيا وتسعى إلى نشر الموت بين البسطاء! الرواية تطرح الكثير من الأسئلة ولكنها ترد على بعضها، وتعتبر الحرب على الإرهاب حربا على الفقراء لأن أسباب الإرهاب تظل قائمة ببقاء الفقر والجهل والتسيب السياسي الذي أسس إيديولوجية «حاميها حراميها» كما تقول الروائية.
هذه قراءة أولية لرواية غارقة في الحزن والدموع والرحيل والغياب واليتم الذي يجمع بين جيلين. جيل الثورة (عمي العربي) وجيل الاستقلال (النذير).. رواية تفوح منها رائحة الوطن المغتال، ونزيف الجرح الجزائري طوال سنوات الموت المجاني. هي رواية تستحق التوقف أكثر وتستحق القراءة من جديد، لأنها ترسم بأنامل كاتبة جزائرية مرحلة سوداء من مراحل الجزائر الحديثة، ولأنها ـ وهذا الأهم ـ تؤكد أن ياسمينة صالح روائية مبدعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
■ باريس: حازم إلياس
طبيب ومثقف سوري مقيم في باريس