موضة تبني «السورية»..!
مع تطور الأحداث السياسية في البلاد في زمن الحرب، بدأت التحليلات المختلفة في البحث عن أسبابها. ومع اختلاف المدارس والرؤى، ظهر من يرى بأن تبني الفكر القومي العربي، «العروبة»، خلال السنوات الستين الماضية من النظم السياسية السورية هو السبب.
وأصبحت هذه الفكرة نوعاً من الموضة الرائجة في أوساط بعض «المثقفين» و«المتعلمين» المنقلبين عن حصر تفسيراتهم للأسباب فيما يرونه عوامل دينية كامنة وممتدة تاريخياً، وكان شكل انفجار الأزمة من منظورهم نتيجة طبيعية لها، ووجد هؤلاء في حقيقة أنهم ذهبوا- طوعاً أو ترهيباً أو ترغيباً-في وقت ما إلى الانتساب إلى الحزب الحاكم في البلاد، بما يحمله من بعد «عروبي»، سبباً لاحقاً في تفسيراتهم الخاصة لأسباب الوضع الراهن.
وأخذت هذه الأوساط بالبحث عن بديل لهذا الفكر (لكنها بقيت ضمن إطار الفكر القومي من حيث المبدأ إلى هذا الحد أو ذاك) فكان الحل هو في التوجه إلى الفكر القومي السوري «السورية» بمعناه الضيق، وليس بالمعنى السائد لدى «القوميين السوريين الاجتماعيين» مثلاً.
وبدأ هؤلاء بالترويج لنوع من تبني الحدود السياسية الحالية كإطار قومي جديد يعتقدون بأنه صالح لحل المشاكل الحالية والقادمة، في انغلاق على الذات وتكريس لقيم جديدة ومفردات جديدة لم تكن رائجة فيما مضى، في عملية تحاول تشكيل هوية ثقافية سورية، لم تتشكل خلال فترة الاستقلال منذ تثبيت الحدود حسب سايكس بيكو حتى الآن.
لكن البحث التاريخي والأثري والأسطوري لإيجاد قاعدة متينة لهذا الفكر اصطدم بالعديد من المصاعب، إذ عند التعمق قليلاً يبدو من الصعب كثيراً الحصول على ما يثبت «الصفاء العرقي» أو التميز الفائق عما يحيط بنا من بلدان (تشكلت كذلك ضمن اتفاقية سايكس بيكو).
عاد غالبية هؤلاء إلى شذرات ما كتب، وعادت كتابات فراس السواح وأحمد داوود وبشار خليف وغيرهم كثر إلى واجهة الكتابات المقصودة من أجل الاستزادة، وتزامن ذلك مع تزايد هذا التوجه نشراً في الهيئة العامة للكتاب.
أخذت المادة العلمية المتاحة تصبح يوماً بعد يوم أكثر انتشاراً (باللغة العربية على الأقل، لأن معظم النتائج الأثرية منشورة بلغات أخرى أهمها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، بحكم جنسيات الباحثين الذين عملوا عليها).
معظم هذه الكتابات تعالج التراث السوري القديم ما قبل الميلاد (في تجاهل متعمد للتاريخ اللاحق، معتمدة على إدانة الفترات اللاحقة كلها) من وجهة نظر أثرية تاريخية أسطورية. يعتمد جزء هام من هذه الكتابات التوثيق، لكن كثيراً منها يعتمد الافتراضات المسبقة التي تجعل بعض هؤلاء الباحثين يلوون عنق الحقيقة للوصول إلى استنتاجاتهم مسبقة الصنع.
ويتعزز ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدراسات الأثرية كلها التي قامت على أرض ما يسمى المشرق أو شرق المتوسط أو بلاد الشام اعتمدت على بعثات أثرية غربية كانت متأثرة بشكل كبير بالمدرسة التي سادت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين (رغم تغير الأجواء في نهاية القرن العشرين، واعتدالها نسبياً) تلك المدارس التي اعتمدت المنهج «التوراتي» الذي يعتمد على البحث عن المواقع الأثرية التي يمكن أن تثبت الأحداث الموجودة في التوراة في منهج منحاز سلفاً، يفترض فرضية «صحيحة» ويحاول إيجاد قرائنها على أرض الواقع.
ورغم التغير النسبي الذي طرأ في أوروبا على هذا المنهج وظهور مناهج أكثر علمية وموضوعية، تبحث عن الحقائق الواقعة على الأرض دون افتراضات (بمنهجية دينية) مسبقة، إلا أن الكتابات والتحليلات المحلية لم تكن بمعزل عن هذه التأثيرات، إما في محاولة لإثباتها (وهي قليلة وخجولة) أو في محاولة لدحضها (بأي طريقة حتى لو كانت تزويراً).
لكن محاولات جدّية لكتابة حقيقية لتاريخ المنطقة لم تنجح حتى الآن، لأسباب عديدة تتعلق أولاً: بالمنهجية الفكرية التي ينطلق منها هؤلاء الباحثون (الذين غالباً ما لا تتبناهم المؤسسة البحثية الرسمية) وبالمؤسسات البحثية المناطة بها هذه المهمة والدعم الذي تتلقاه هذه المؤسسات.
وعند محاولة تقصي التوجهات المشابهة في الدول المجاورة، نتوصل إلى ملاحظة، أن ما يحدث لدينا رغم تأخره النسبي (بسبب سيادة الفكر القومي العربي لفترة طويلة) يشابه ما جرى في العراق ولبنان وتركيا ومصر على الأقل، من حيث محاولة فصل تاريخ المنطقة وحز حدود التاريخ ليناسب الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، فكل من تلك الدول هي «أم الحضارات» وحدها، ولا تحتل فكرة تكامل المنطقة ككل إلا حيزاً ضيقاً يجري التهرب منه بشتى الطرق.
ويمكننا وعلى سبيل التندر أن نذكر بعض أنماط التطرف في الطروحات التي تصل إلى حد اعتبار الصاعقة التي يحملها بعل (والموجودة في معظم تماثيله) هي تجسيد لاكتشاف السوريين لسلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين DNA، وأن الأشكال الدائرية في معاصم عدد من التماثيل (الرولييف) هي دليل على اكتشاف السوريين لساعة اليد منذ حوالي خمسة آلاف عام.
رغم أننا نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون (سياسياً وطبقياً) إلا أن مهمة كتابة التاريخ (تاريخ المنطقة المشترك برمتها) تبدو مهمة ذات أهمية خاصة وذلك بالتعاون مع باحثي المنطقة ككل. تاريخ يشمل الفترات كلها وليس فترة محددة بعينها لأغراض سياسية محددة، في مساهمة حقيقية لتوحيد شعوب المنطقة دون افتراء أو ظلم لأي من تنويعاتها وتكاملاتها، في إطار يعطي التاريخ حقّه دون مبالغات تحمل التاريخ ما لا يحمل.