«الحريَّة في سبعة أيام»
لفت نظري في كتاب الباحث العراقي حكمت بشير الأسود الصادر في دمشق عام 2007 تحت عنوان «الرقم سبعة في حضارة بلاد الرافدين» الأعياد التي يُحتفى بها في بلاد الرافدين حيث تضمَّنت عيداً طقسياً غريباً يُعرف بعيد «إطلاق الحرية لمدة سبعة أيام» يُشارك فيه السكان جميعهم. سبعة أيام تتوارى أثناءها الطاعة ويتحررالناس من السلطة الطاغية حيث يصبح الخدم سادة ويسير الخادم والسيد جنباً إلى جنب في طرقات المدينة، وينام الغني والفقير الواحد جوار الآخر، حيث تعمّ العدالة أركان المدينة، وينهزم الأشرار خارج أسوارها المنيعة، ولا يُظلم اليتيم ولا الأرملة.
يتميز هذا العيد بالغياب الكلي للسلطة حيث ينعم السكان بالحرية المطلقة، فنقرأ في نص سومري من عهد دولة «لكش» أن الحاكم السومري الأمير «جوديا» وبعد الانتهاء من تشييد أحد المعابد جاء وقت الاحتفال: «أعطى أوامره فتبعته المدينة كما يتبع الطفل أمه، ففي هذه الأيام السبعة تُطهَّر المدينة من الرجس حيث بُني المعبد على أرض طاهرة، لا يُضرب أحد بالسوط، لا يُجلد أحد، لا يعزف المُغني أغنية حزينة، لا تُدفن أية جثة في مقبرة المدينة، تصمت النائحات، لا يذهب أحد إلى محكمة لكش، لا يدخل الدائن بيت المدين، لا تُطحن الحبوب سبعة أيام، الأمَة غدت تساوي سيدتها، العبد يمشي جنب سيده ولا يُظلم أحد في مدينتي».
إن عيد الحرية هذا نجد له مثيلاً مشابهاً في الدولة البابلية حيث كان يُحتفل به في مدينة بابل سنوياً مع قدوم الربيع ويمثل مناسبة فرح عام كان يتم خلاله تغيير الأدوار ما بين السادة والعبيد إذ يُصدر الخدم الأوامر إلى السادة وعلى السادة الطاعة. وتمعن العامة في تغيير الأدوار حتى تصل إلى الملك الحاكم فتجرده من سلطته وتٌعطيها لأشهر مجنون في المدينة حيث يرتدي ملابس ملكية يحف به صبيان الأزقة والشوارع في مشهد ينم عن سخرية لا يستطيع تحمل مذاقها اللاذع الملوك والرؤساء في عصرنا الحديث.
وقد شاعت مثل هذه الأعياد في العالم الروماني القديم حيث سُمي أحد هذه الأعياد بعيد «الحرية والإخاء والمساواة» في ظله تضع الحروب أوزارها وتقفل الحوانيت والمدارس وتُطلق حرية القول والنقد. وكان من أهم مظاهر العيد اختفاء الفروقات الاجتماعية، فكان الناس في ذلك الأسبوع على صعيد واحد سواسية كأسنان المشط. وكان العبيد والأرقاء طيلة الأسبوع أسياداً وشرفاء. وكان سيد البيت وسيدته يلبسان ثياب الخدم ويقدمان الطعام والشراب للعبيد الجالسين على الأرائك وأمامهم الموائد العامرة الفاخرة.
إن هذه الوقائع إذ تشير في جانب منها إلى قدرة حكام الممالك والامبراطوريات القديمة على ايجاد و«تقبل» وسائل مبتكرة لاستكمال فرض سيطرتهم ونفوذهم ونمط توزيع الثروة داخل الهرم الاجتماعي في ممالكهم لبقية أسابيع السنة كلها، فإنها تدل في العمق من جانب آخر على أن فكرة الحرية والعدالة والمساواة متجذزة في تراث شعوب المنطقة، وإلا لما اضطر هؤلاء لمحاباتهم ولو لبضعة أيام أو لأسبوع واحد من أسابيع السنة الاثنين والخمسين..!