رواية ساراماغو بتوقيع البرازيلي فرناندو ميريليس «العمى» مرثية لبربريّة الأزمنة الحديثة

«العمى» مرثية لبربريّة الأزمنة الحديثة

 

«العمى» رواية البرتغالي جوزيه ساراماغو (نوبل 1998)، والآن فيلم البرازيليّ فرناندو ميريليس، تراجيديا بشرية فقدتْ صوابها، وملهاة أرواح تمعن في تدمير حضارة الإنسان، في آن. يقف الفيلم على سيناريو النصّ الروائيّ حرفياً، مع معالجات بصريّة غاية في ذكائها، حيث يذهب المخرج بعيداً بالفكرة، حتى حدودها القصوى، ليضع أناساً من الأعراق كلها، على اعتبار أن اللعنة محيقة بالجميع، ولا فرق بين أحد من أحد. إنها لعنة العالم كاملاً، والإنسان في كلّ مكان.

يجسّد الفيلم الذي يندرج ضمن أفلام «الغموض» معاناةً إنسانيةً كبيرة، عندما يصيب العمى سكان المدينة كلها، دون أن يتم تحديد اسم هذه المدينة - كمجاز للمدن كلها - بدءاً من سائق السيارة الياباني بعمى مفاجئ وهو يقود سيارته، ثم يعيده رجل آخر إلى البيت ويسرق السيارة، وحين يراجع طبيب عيون لتشخيص حالته سيصاب كل من في العيادة بالعدوى، وسيصبح هؤلاء الأشخاص شخصيات الفيلم الرئيسية، بعد أن يضرب الوباء أرجاء المدينة. بانتشار الوباء من شخص لشخص تقوم الحكومة باحتجاز الموبوئين من الناس في حجر صحي، لعين ولا إنساني، ولكنّ هذا الحجر لا يحلّ المشكلة التي تأخذ بالتفاقم، إلى درجة أن أعضاء الحكومة نفسها يصيبهم الوباء، لتدخل البلاد حالة من الفوضى العارمة، وتنسد كل سبل النجاة أيضا ما يجعل الأمر أكثر تخبطاً.

الناجية الوحيدة في كل هذه المأساة هي زوجة الدكتور، الممثلة الأمريكية جوليان مور، التي تظاهرت بالعمى أيضا كي ترافق زوجها، واستمرت في ذلك لئلا تقع ضحية الفوضى العارمة، مُحاولةً بشتى الطرق إنقاذ المدينة الذي انتشر العمى فيها. ومع تدفق العميان الجدد إلى المبنى ستبدأ صراعات الأنانية، حيث ستقوم عصابة بإعلان نفسها مسؤولة عن الطعام وأنها ستأخذ مقابله ما يحمله الموبوءون من حلي ومصاغ، وحين ينتهي الحلي سيطلبون النساء، ليقوموا بمجزرة جنس وحشية تنتهي بموت إحدى النساء. لكنّ زوجة الطبيب تصرّ على غسلها قبل الدفن، لترسلها إلى قبرها نظيفة من القذارة التي تسربت إليها. ثمّ تقتل زوجة الطبيب زعيم العصابة بمقصّ. وينطلق العميان إلى الخارج، لنرى المدينة وقد صارت كومة من القذارة والنفايات، وكأنّ الحضارة انتهت. الناس يلهثون من أجل الطعام، والكلاب تنهش الجثث. لكنّ زوجة الطبيب، بصيرة العالم الباقية، أمله، وجدانه المعافى، ستقود أصدقاءها في رحلة إلى بيتها، حيث ستبدأ حياة جديدة، وحين يعود البصر إلى أول الذين انعموا سينتهي الفيلم مفتوحاً على أقاصي الأمل.

فرناندو ميريليس صاحب «مدينة الله» ينقل المشاهد إلى عوالم كابوسية، مدركاً أبعاد اللعبة الروائية، ومجسداً بمهارة جوهر فكرتها، إلى درجة أنه عمل على نقل حالة العمى الأبيض عبر برهات يلوّن خلالها الشاشة بالبياض الباهر، ليصيبنا بالأرق من الغد الجحيمي الذي ينتظرنا، في عصر الانهيار الأخلاقي والحضاري الذي نعيشه.

■■

 

 

سخرية ومزاج كافكاويّ

 

ولد البرتغالي جوزيه ساراماغو عام 1922 بمنطقة أريناغا (وسط البرتغال). أصدر روايته الأولى «أرض الخطيئة» عام 1974، وتوقف عن الكتابة ما يقارب العشرين عاماً، ليصدر ديوانه الشعري الأول «قصائد محتملة» عام 1966. الكابوس ملمح أساسي في كتابة صاحب «كل الأسماء»، إنه يعطي لنصّه نكهة المرارة ومذاق الأسى، لأنّ عالماً مخبولاً كالذي نعيشه لا يحتاج إلى متفائلين بمقدار حاجته إلى متشائمين يفضحونه، يقول في حوار معه: «التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، وأن التفاؤل شكل من أشكال الغباء. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينمّ إما عن انعدام أي إحساس أو عن بلاهة فظيعة». فمن وجهة نظره يظن المتفائل أنّ العالم في حال جيدة، وسوف يتحسّن. أمّا المتشائم، فيرى الحال الرثّة التي لا يمكن التغاضي عنها، هكذا سيتملك المتشائم الدوافع اللازمة لكي يحاول تغيير العالم. يحرص هذا (الشيخ) على شكل النّصّ حرصه على مضامينه، لذا فتكنيكه الذي بات معروفاً هو إهمال علامات الترقيم لجعل النص كتلة واحدة متراصة، تسير جيئة وذهاباً. ودمج الحوارات في بعضها البعض، وحذف الأسماء كلياً والاكتفاء بصفاتها وحسب. عرفتْ كتابته الروائية مراحل بدأت بمرحلة تاريخية قام فيها بتقديم قراءة للتاريخ، خصوصاً تاريخ البرتغال، ثم تلتها مرحلة مجازية، هي المرحلة التي أنجز خلالها روايته التي جرت عليه غضب الفاتيكان«الإنجيل بحسب المسيح» و«العمى»..إلخ.

هذا العضو الملتزم في الحزب الشيوعي البرتغالي، منذ شبابه، يكتب بلا هوادة ودون حياد، ولا يكفّ عن إثارة الأسئلة وتعرية زيف الحضارة الحديثة..