عودة الابن الضال!!..
..في ذلك الزمن، كتب محمّد الماغوط «البدوي الأحمر» عن زكريا تامر بأنه الـ «حدّاد في وطن من الفخّار». ولو كان الماغوط على قيد الحياة.. لما تردّد لحظة في الاعتراف بأن الوطن ما يزال وطن الفخّار، ولكن هل كان ليعترف بأن الحداد لم يعد حدّاداً!..
محمد الماغوط الذي ظلّ طوال حياته بدويّاً في سلوكه من أن يكون أحمر، لم يعد بدويا ولا أحمر في نصوصه الأخيرة، وأصبح مواطناً صالحاً.. حتّى في جمهورية الإبداع. وأصبحت ألعابه ومفرقعاته ومهرجاناته النارية أقرب إلى استنساخ إبداعاته القديمة. لقد توقف الرجل في مكانه، ولم يعد نصّه نصّاً تجاوزياً، ولا لاذعاً، ولا حرّيفاً.. والأدهى أنه لم يعد نصّاً شعرياً في تلك الكتب الثلاثة: سيّاف الزهور، شرق عدن..غرب الله، البدوي الأحمر. وظلّت خافتة تلك الأصوات التي لم تحتفِ بمنجزه الجديد. فلا أحد يجرؤ على اقتحام ذلك الرجل والسبب في ذلك: التاريخ!..
لا مشكلة في الكتابة عن محمد الماغوط عندما يكون المراد: زكريا تامر. فبين الرجلين أكثر من تشابه، منذ «حزن في ضوء القمر» و«صهيل الجواد الأبيض»، واستمراراً حتّى «البدوي الأحمر» و«القنفذ»، المجموعة الأخيرة التي أصدرها زكريا تامر، والتي لم تلتف حولها الأصوات ولم تحتفل بها الأقلام.
لكن، لماذا هذا الإحجام والخجل عن رصد التجارب الأخيرة في منجز كلا الكاتبين، وهل السبب ـ فعلاً في طائلة المسؤولية التي تقترحها مقولة: قتل الأب؟!..
قضى زكريا تامر أكثر من عشرين عاماً في لندن، ثم حصلت «المصالحة» ليعود القّاص الرائد إلى دمشق، دون أن يكتب كلمة واحدة عن مدينة الضباب، على عكس محمد الماغوط الذي هرب ـ ذات يوم ـ إلى بيروت. بيروت المعطاءة. هو أيضاً فضّل العودة إلى دمشق (التي لا تعرف أن تعطي على حد قوله)، وظلّ قاطناً فيها طيلة عشرين عاماً دون أن يزور مسقط رأسه: سلمية!!..
كتب محمد الماغوط عن بيروت التي أحبها، رغم إقامته القصيرة فيها. ولم يكتب زكريا تامر عن لندن.. وها هو الآن قفل عائداً إلى دمشق التي بالتأكيد (لا تعرف أن تعطي)..
ما غاب عن ذهن الماغوط أنّ دمشق تعرف كيف تعطي، ومتى، ولماذا. لقد تمّ تكريم المبدعين الكبيرين محمد الماغوط وزكريا تامر، والتقطت «المؤسسات» الإشارة، وتصالحت بدورها معهما!!..
لقد تملّك التلفزيون السوري «أفكاراً» كتبها الماغوط بهدف تحويلها إلى مسلسل باسم: حكايا الليل والنهار، كما تملّك أيضاً الأعمال الكاملة لزكريا تامر لتحويلها إلى مسلسل آخر!!..
وعلى التوازي، قامت (وتقوم) مطبوعات متعثرة باستقدام (واستدراج) الكاتبين الكبيرين، واستكتابهما تحت يافطة: الشاعر الكبير، والقاص الكبير..
الفرح أصبح ـ أخيراً ـ مهنة محمد الماغوط (في أيامه الأخيرة)، وأصبح زكريا تامر أحد النمور. والذي «خان وطنه» عاد إلى الحظيرة الوطنية، و«دمشق الحرائق» لم تعد «حصرماً»!!..
ما من شك أن هذين الكاتبين العظيمين يستحقان التكريم والاحتفاء منذ زمن بعيد، فمحصولهما الإبداعي غني عن التعريف، والشرارة التي أطلقها ـ كلاهماـ في الهشيم الثقافي والفني لهي جزء من النار المقدسة.. ولكن الحقيقة أيضاً أن ثمة تراجعاً في إنتاجاتهما ـ على مستوى الإبداع وتطور التجربة الفنيةـ الأخيرة.
ومهما يكن من أمر، فقد كان تعويض ذلك التراجع، بالعلاقة النادرة بين القارئ وهذين الكاتبين، العلاقة التي تكونت تاريخياً معهما بوصفهما ضميرين إبداعيين لا يأبهان كثيراً بالهراوة الشرطية، ولكن يبدو أن «السياسة» تستطيع أن تفعل ما هو أبعد بكثير مقارنة مع الفلسفة. الفلسفة البائسة التي تحدثت وصرخت طويلاً بـ«موت المؤلف»!!..
لقد تخلى الحداد عن مهنة الحدادة، وليس السبب في «ياسمين» دمشق كما ادعى نزار قباني ذات مرة..
السجن، المنفى، مفردتان مثيرتان في سيرة المبدع الشخصية، لكن البعض يفضل المصالحة.. أو لعلها «المصالح»..