ربمــا..! مرثيّة غير عاديّة للموت العاديّ
ماتت أم مريم ميتة ربّها في وقت يموت فيه كثيرون ميتاتٍ لا يستطع الربّ نفسه فعل شيء حيالها..
ماتت أم مريم.. بينما كان من المفترض الانتباه إلى عرس الدم الدائر في كلّ مكان، وتأجيل الاهتمام بها حتى إشعار آخر، فكم من أمّ وطفل وشاب و.. و.. قضوا هذه الأيام دون أن يأتي أحد على ذكرهم، فكل ما يصبح كثيراً، حتى لو كان موتاً، يصبح أمراً مألوفاً مع الوقت.. هذا ما تنتجه نزعة البقاء البشرية حين يصبح البقاء أمراً مستعصياً..!!
ماتت أم مريم.. كنا، نحن أولاد حارتها، نتوّقع حدوث هذا الموت في أية لحظة، فالمرأة وصلت إلى الحافة، إلى لحظة الضعف الكبرى، اللحظة التي تجاوزت وصف ممدوح عدوان: «بدأت خيانات الجسد»..
ماتت أم مريم فجاء الخبر باهتاً عن موت عاديّ في زحمة أخبار الموت اللا عاديّ. ولأنه موت عادي بالذات شعرتُ أنها تستحق وساماً مضاعفاً، ففي موتها مثلت، كما في حياتها، أولئك الذين نراهم، والذين نعرف أنهم موجودون ولا نعرفهم، والذين لا نتمنى لهم أكثر من حياة وموت هادئين بلا صخب.. لكنهم ماتوا!! لكنها ماتت!!
ماتت وفي ثوبها الكحلي رائحة الفقر.. ماتت ووشم وجهها لا يزال طازجاً.. ماتت العجوز الفلسطينية كما يموت أي كائن.. لكنها لم تعش كما يعيش الناس!!
لم أخرج في جنازتها، لم أذهب إلى المأتم، بالنسبة لي هي لا تزال في غرفتها الصغيرة تعدّ شايها بالمليسة وتروي لنا ذكريات البلاد وسيرة المخيم، فالحكاية ما قيلت أصلاً إلا لتأخذ رواتها إلى الخلود.
لماذا هذه المرثية؟ سيسأل أحد ما..
لا جواب.. سوى أن حديثاً عابراً دار بيننا قبل رحيلها بفترة عن الشباب الذين يموتون قبل أوانهم.. فمجّت سيجارتها ونفثتها ببطء.. وقالت: «لما بيكون في ناس عم تروح قدامنا وإحنا ساكتين بلا حس معناها نحنا عايشين ع الفاضي؟!».