بمناسبة عرض (صح النوم) على تلفزيون قطر... تحولات غوّار الطوشة؟..
من قتل غوّار الطوشة؟!.. ليس هذا السؤال كاملاً، وربّما من الأنسب، مقاربةً للحقيقة، أن يكون: من قتل غوّار الطوشة في المرة الأولى، أو الثانية، أو.. إلخ. فالحقيقة أن غوّار الطوشة قُتِل أكثر من مرة، وأكثر من ذلك يمكن القول إنه انتحر في إحدى المرات!..
إن الهدف من إعادة مناقشة هذه القضية، وطرح السؤال السابق بالصيغة الاستفهامية الاستنكارية، هو إطلاق المسألة وتحريرها من شرطها التاريخي، بفاعليته الزمكانية، للوقوف على حقيقتها، بأبعادها الفنية والاجتماعية والسياتاريخية، بالانفتاح على كل الأسئلة «والتساؤلات» المحتملة، بل إننا نستطيع أن نتساءل، أيضاً: هل تعرض غوّار الطوشة للاغتيال السياسي؟!..
إن غوّار الطوشة، كشخصية فنية درامية، ولد بعد مخاض طويل وعسير، إذ فشلت الشخصيات الأولى التي قام دريد لحّام بخلقها فنياً!.. وانتهى إلى شخصية غوّار بمكوناتها وملامحها الداخلية والخارجية، في آن. الداخلية من حيث صفاتها النفسية والوجدانية، والخارجية من حيث شكلها وطريقتها في الأداء الدرامي.
وهنا، يمكن القول، للتأكيد على الشروط الاجتماعية والثقافية، إن ولادة غوّار الطوشة لم تكن ولادة قيصرية، بل ولادة طبيعية جداً، ما يشكل استجابة لذائقة المحيط البشري، وطبيعة تلقّيه للعمل الفني. ولعله، يبدو غريباً «ومريباً» هذا الانحياز لصناعة الكركتر «character» عند الفنانين السوريين، ما يشكل علامة فارقة «وفاقعة» في الدراما السورية. إذ ما مبرر دخول الفنان في النمط الدرامي، وما مؤشرات هذا الكمّ الكبير، نسبياً، من الشخصيات الدرامية: غوّار الطوشة، حسني البورظان، أبو عنتر، فطوم، ياسينو، أبو فهمي، أم كامل، أبو صياح، أبو شاكر.. وغيرهم؟!..
مهما يكن من أمر، فإن غوّار الطوشة، وُلد وترعرع هناك، وبعد التجارب الأولى في «مسرح الشوك»، ذهب إلى مراهقته الفنية، كشخصية درامية فاعلة، مع حسني البورظان، ليعلنا معاً عن ولادة الثنائي الشهير بتصوراته وعلاقاته مع آخرين، في حارة شعبية من الوطن، «أو قُلْ: هي الوطن»، حارة «كل مين إيدو إلو»!.. واستمرا في العمل معاً، ليؤكدا في كل مرة، إضماراً أو إعلاناً، ذلك التموضع الاجتماعي، والانتماء المكاني «الدمشقي تحديداً»، لكن دون الإصرار، «وربّما بسبب غياب الفكرة، أو الوعي» على تكريس أنواع أخرى من الصراعات.. لقد انحازا إلى صراع من النوع النفسي، بعيداً عن المستويات الأخرى.
وبالاستفادة من ذلك النموذج الشهير: نموذج الثنائي البدين والنحيف، تمَّ التحضير لمقولات فنية عبر الحياكات الدرامية ذات الطابع الساخر، فحضرت المقالب والقفشات، و«الغثاثات أحياناً»، عبر سياقات تنبع «غالباً» من طبيعة الصراع الدرامي، مع التأكيد على ذلك المضمون الاجتماعي، ما شكّل ميزة تحسب أهميتها لثنائي: «غوّار وحسني»، خلافاً لثنائي: «لوريل وهاردي» الذي لعب على مقولات فكرية نفسية، وليس اجتماعية كما هو الحال هنا.
وبنجاح هذا الثنائي، امتلك المشاهد مفاتيح الصراع بين الشخصيتين، وهو على أية حال صراع من النوع البسيط، وعرف الجمهور قواعد اللعبة: غوّار النحيف، الضعيف، ينتصر على حسني البدين، القوي، لينتصر الذكاء أو الحنكة، أو الفهلوة أو الانتهازية، على الضخامة أو الرزانة.
إنه التأكيد على القوة الداخلية عند البشر، التي قد تترجمها الأجسام بطريقة خاطئة. لكن ما لم ينتبه له الكثيرون، وربّما الثنائي نفسه، هو حضور تناقض من نوع آخر، وهو التناقض الاجتماعي الذي سيقود، ولابدّ، إلى الصراع الاجتماعي: غوّار الأميّ، بطربوشه وقبقابه وشرواله، وحسني المتعلّم، ببذته الرسمية وكرافته.
لقد آثر هذا الثنائي، وربما عفو الخاطر، تحييد هذا النوع من الصراع، وتمَّ بالتالي تحييد الوعي السياسي، دون أن يعني ذلك غياب النقد السياسي، بالشكل الكامل. بل إن اسم الحارة نفسه: «حارة كل مين إيدو إلو»، هو نوع من الاعتراض السياسي على غياب الدولة والقانون، وهو كذلك نوع من الاعتراض على تغليب المقولات الشخصية على المقولات العامة!..
في مناخات هذه العلاقة بين غوّار وحسني، كان غوار قد عاش يفاعته، ومراهقته. وأكثر من ذلك، كان قد شبّ عن الطوق. وكانت تهبّ على الوطن موجات «أو ثورات» تكرّس لأنماط أخرى من الفكر والوعي، عبر إعادة تركيب البنية السياسية التي تُضمر تحولات الواقع الاجتماعية. وبعد نكسة حزيران كان على غوّار الطوشة أن يسعى لامتلاك الوعي السياسي، بالنكهة ذاتها التي استعذبها الآخرون: نكهة الانتهاك، والفضح، والانتهاج الاعتراضي، على ذلك النحو الساخر، القاسي والمؤلم والمضحك، في آن. وكان طبيعياً أن يلتقي غوّار الطوشة مع محمد الماغوط!..
بحضور محمد الماغوط ستتغير قواعد اللعبة. لم تعدْ حارة «كل مين إيدو إلو» هي الوطن، لقد أصبحت ضيعة «غربة» هي الوطن. وهذا التغير في الانتساب المكاني لم يأت اعتباطاً، أو اغتصاباً، بقدر ما أتى كمؤشر طبيعي، وأمين، عن تبدل البنية السياسية، وطريقتها في صياغات الوطن.
وهنا تظهر مفارقة تنشئ من هذا التبدّل في طبيعة التمثيل السياسي: إن محمد الماغوط القادم إلى دمشق، قام بإرسال غوار الطوشة إلى سلمية.
في هذا الوقت، كان تبدّل المواقع والأدوار قد أصبح أمراً واقعاً. لقد بدأت دمشق «كرمز للمدينة السورية» بالاتساع والامتداد، فنمت الضواحي، واكتظت بالريفيين.. وفي الوقت ذاته، كان النَفَس المديني قد وصل إلى الريف السوري، بقراه ودساكره.. لتختلف أنماط المعيشة، الأمر الذي أدى إلى اختراق المؤسسات وأنساق الصوغ الثقافي والسياسي.
في عالم محمد الماغوط، تغير غوار الطوشة كثيراً، لم تعد هذه الشخصية نمطية، بل أصبحت نموذجاً. إنها تعبير عن النمذجة لفئات شعبية واسعة، مسحوقة، ومظلومة، لا تؤمن كثيراً بالاستعراض السياسي. لم يعد غوّار الطوشة فهلوياً، أو انتهازياً، أو متشيطناً.. لقد انتقل إلى منطقة أخرى، أكثر صفاء وصدقاً.. أصبح صوت الضمير الشعبي. وأهمية هذا التحوّل أنه جاء من داخل القوى التي قادت التغيير، ليكشف عن الاختناقات «العويصة» في تلك المسيرة التغييرية!..
وأخيراً حلّ النزاع بين غوار الطوشة ومحمد الماغوط، وهو على أية حال نزاع غامض وشائك. وصادف أن اتفق الطرفان، للغرابة، على عدم الخوض في أسباب هذا النزاع وبواعثه، ولم يشف المُعلنُ منه غليل المشاهد، والمتحمّس لهذه الشراكة.
لقد أخفقت كل الوساطات في إصلاح ذات البين، فالبوْنُ كان شاسعاً، وجارحاً. وتلك التبريرات التي سُرّبت «أو أُعلنت» على لسان الماغوط، والتي تتلخَّص بأن دريد لحام قد تصرَّف ببعض السياقات الدرامية، دون علمه، ليست كافية.. لقد أصبح الريفي مستبداً!..
كانت هذه مرحلة القول السياسي عند غوار الطوشة، «البعض يرى فيه تقوّلاً سياسياً»، التي احتقبت أعمالاً مائزة في المسرح والدراما والسينما. وهكذا: بعد «غربة، وضيعة تشرين، وكاسك يا وطن، وشقائق النعمان، ووادي المسك، والتقرير والحدود».. بعد كل هذه التجارب حلّ النزاع، وكان كل منهما «غوّار، ومحمد الماغوط» قد ذهب بعيداً، بعيداً إلى الحدّ الذي لم يعد باستطاعة أحد أن يساعد أيّ منهما.
لقد افترقا، لكن حضور الريفيّ أصبح كبيراً في غوّار الطوشة، كبيراً الحدّ الذي أجبر دريد لحّام على استحضاره من خلال شخصية «قيصر النملة» في مسرحيته «صانع المطر»، مدّعياً أنه جاء به من ضيعة أمّه في الجنوب اللبناني. وكان أيضاً قد حضر غوّار المديني في محمد الماغوط بقوة إلى الحدّ الذي جعل الماغوط مقيماً في دمشق منذ ذلك الحين، حتى أنه لم يزر سلمية التي جاء منها منذ عشرين عاماً!..
كان غوّار الطوشة قد ابتعد كثيراً عن غوّار الطوشة، وعلا صوت الحنين عند جمهور الدراما، وبدأ ذلك الجمهور يطالب غوّار بالعودة إلى غوّار، إلى حارة «كل مين إيدو إلو»!.. ولكنّ أشياء كثيرة تغيرت. لقد مات حسني البورظان، وتفرّق أهل الحارة. ولكن غوّار قام أخيراً بتلك العودة عبر مسلسل «عودة غوّار.. عودة الأصدقاء»، ولكن ما لم يُحسب حسابُه أنّ الجمهور قد تغيّر، وتغيرت طبيعة قراءته للعمل الدرامي، ولم يأت العمل بنتائج باهرة!.. إن التحولات في الواقع والزمن، لم تُقرأ بالشكل الصحيح.
وبعد فترة صمت، أعاد غوّار الطوشة التجربة مرة أخرى، ليظهر إلى العلن عبر شخصية «أبو الهنا»، وهي شخصية مختلفة تماماً في البنيان الداخلي والخارجي. ورغم نجاح التجربة من الناحية الفنية، إلا أن النتائج جاءت متباينة ومتناقضة.
إشارة لابدّ منها: تمّ استخدام اسم غوّار الطوشة بديلاً عن جميع أسماء الشخصيات التي قام الفنان دريد لحّام بتأديتها، وأحياناً تم استخدامه بديلاً عن اسم دريد لحام، ذاته. وليس الهدف من ذلك الإساءة والتجريح، ولا التبسيط والتهويل، وإنما لسبب بسيط، هو طغيان اسم غوّار على جميع أسماء الشخصيات الأخرى، فضلاً عن أن العدد الأكبر من مشاهدي التلفزيون، ما زالوا يطلقون هذا الاسم على دريد لحام، في أية مناسبة يحضر فيها، سواء عبر شخصه، أو عبر شخصية درامية.
وإشارة أخرى، تبدو ضرورية أيضاً، وتتلخَّص بأن هذه المقالة لم تُعن بالنجاح الفني الذي حقَّقه دريد لحام في مسيرته الفنية، ولا في تباين هذا النجاح في تجاربه مع الكتاب المختلفين، لقد اهتمتْ «هذه المقالة» بتحولات غوّار الطوشة.. فقط!!..