ربّما! ذكرى أيام بيسان
في مثل هذه الأيام من عامي (2004 ـ 2005) كنا مجموعة الشباب المتطوعين في مركز مؤسسة بيسان للتنمية الاجتماعية، في مخيم خان الشيخ، التابع لمؤسسة بيسان الفلسطينية التي تنشط في مخيمات الشتات، في مجالات المرأة والطفولة والشباب، ضمن برنامج تنموي، حيث يتم العمل وفق آليات المنظمات غير الحكومية...كنا نحضر لمهرجان، هو الأول من نوعه، في هذه الأوساط المعتادة على المهرجانات الخطابية، أو احتفاليات انطلاقة أحد التنظيمات، لا غير..
بدأت الفكرة كاقتراح لخوض مغامرة، وبعد أن لاقت قبول جميع أعضاء الورشة، بدأ العمل الفوري على تنفيذها، وكانت أولى الصعوبات تكمن في الحصول على الرعاية الرمزية من وزارة الثقافة، حتى يكون العمل قانونياً.
كاد الوقت الذي أعددنا له أنفسنا يفوت، والموافقة عالقة، وحين جاءت، لم يكن لدينا فيه إلا ثلاثة ايام على المواعيد التي عقدناها مع ضيوف المهرجان من تشكيليين، وكتاب، ونقاد. جمعنا المال من بعضنا، حيث وضع كلّ واحد حسب إمكانياته، ومع مبلغ زهيد من المؤسسة، كان رصيد المهرجان لا يتجاوز (15) ألف ليرة. طبعنا البرنامج على ورقة عادية، وأعلنا بدء الاستنفار العام، فكان الشباب الذين يدورون في الشوارع كسعاة بريد، هم أنفسهم من سيكون منهم، في المساء، عريف حفل، أو مقدّم، أو مدير ندوة، وهم أنفسهم، قبل الفعاليات وبعدها من سيكونون حراس المركز وأذنته. يشطفون البلاط، يصفون الكراسي، وبالحماس نفسه، يفتحون الحوارات الساخنة، ويثيرون الأسئلة المقلقة.
في الدورة الثانية، نضجت الفكرة أكثر، وصرنا نعرف ما هو الممتع والجذّاب والمفيد معاً وهكذا أضفنا إلى اسم المهرجان (أيام بيسان الثقافية) عبارة (أيام الشباب)، على أن تتغير هذه العبارة، كلّ سنة، بحسب العنوان الذي سيوحّد إيقاع الفعاليات.
في السنة الثانية كان وضعنا المالي أحسن بقليل، ولا أقول بقليل إلا لأنه كان كذلك. أمّن أحد الأصدقاء دعما مالياً ساعدنا في دفع أجور نقل الأعمال الفنية من دمشق الى خان الشيح، وبالعكس، كما سهّل لنا وجود يافطات في أرجاء المخيم. كذلك تكلف صديق آخر بمهمة طبع الملصق والبرشور، وصمّم أحد الفنانين الشباب فكرة للمطبوعات، أفرحتنا كثيراً، وهي عبارة عن صورة عود كبريت له هالة ضوء عملاقة، واتفقنا، نحن أعضاء المركز وأصدقاءه، أننا هذا العود. وكانت كلمة المهرجان بعنوان يدل على هدفنا الأسمى (من أجل حياة شابة). ولك أن ترى ما الذي عناه لنا أن يتجاور ملصقنا، بعود ثقابه المشتعل، مع ملصقات شهداء فلسطين، على الجدران نفسها، وكأنها صرخة تقول بأنّ أفعال المقاومة نفسها، مهما اختلفت الأساليب.
لم نكن مغلقين على فلسطينيتنا، ولم تكن فلسطينيتنا شوفينية، طوال الوقت، كان الأخ السوري معنا وفينا ومنا.
وكتبت الصحف الكثير عن هذا المهرجان، وعن نهفات هذا المهرجان... عن خطأ عرض القسم الثاني من فيلم (يد إلهية) قبل الأوّل، وعن امتزاج صوت الشاعر بصوت المؤذن، وعن فارس الحلو الذي كان يدير حواره مع الجمهور، والأطفال، فوق أسطح البيوت المجاورة يصفقون ويصرخون للممثل: فرحان.. فرحان..
وحدث أن اتفقنا مع فرقة موسيقية لإحياء حفل الختام، ولم نكن نعرف أنها فرقة متخصصة بالأغاني الغربية، وفي عزّ دين الحفل، الذي لم ننسجم معه على الإطلاق، عقدنا حلقة دبكة شعبية، فيما الفرقة تضبضب أغراضها.
وحدث أن ألقى لقمان ديركي في أمسيته قصة (رحلة إلى عين ديوار)، وهي تدور على لسان طفل كردي في الصف الخامس، يروي ما عاشه، وما شاهده، في موضوع إنشاء، ولك أنْ تسمع، أينما ذهبت في خان الشيح، تلك الجملة اللقمانية: (وكان الباس يتير تيراناً)..
وفي الدورة الثالثة لم يقم المهرجان، كان هناك عدة أسباب، عجزنا عن تحديها، أولها مونديال (2006)، وبعده مونديال حرب تموز في لبنان..
ولا أدري حقاً، متى سيعود المركز إلى تفاعله وفعالياته، خاصة وأنه يشكو الكثير، من أزمة التمويل، وضيق المكان، وغياب التجهيزات الفنية وسواها.
كان مهرجان (أيام بيسان الثقافية) حركة مؤثرة، وشديدة الخصوصية، في وسط ريفي، قلّما يجد من يوليه تلك العناية لعقله وروحه وذوقه، وهو حين يغيب الآن فذلك يعني أنّ الجهود الفردية وحدها لا تكفي، ما لم يكن هناك دعم ينطلق من همّ حقيقي، وإلا فإنّ حالة الاحتضار هذه أصبحت حالة عامة، ولا خلاص...