النوايا الحسنة لا تصنع شعراً!! (قلب من ورق الخُرْشوف)
تنتمي مجموعة (قلب من ورقِ الخُرْشُوف) إلى اتجاه أدبي بدأ ينتشر، وينظّر له منذ الربع الاخير من القرن العشرين في الأدب العربي، هو اتجاه يمكنُ أنْ أُسَميه بشعر البداهة، أو بالاتجاه العفويّ في الشعر، ذاك الاتجاه الذي ينزع نحو الجزئي واليومي، واللغة المتداولة على الأفواه، أي ذاك الأدب الذي يتجه مباشرة نحو المتلقي دون رتوشٍ أو تصنّعات لغوية غائرة، وهو الشعر الذي يمثله في الأدب العالمي بول فاليري الذي أطلق عليه تسمية (بذور الواقع). ويمثله من جيل الرواد في الشعر العربي نزار قباني.
وإذا ما ابتعدنا عن المشاجرات النقدية، وتراشق الحجارة بين أصحاب أو مناصري الاتجاهات المختلفة في الشعر العربي، التي ينطلق فيها أصحاب كل اتجاه من مبدأ امتلاك الحقيقة المطلقة التي تجعل الشعر في اتجاه، وتنكره على اتجاه آخر، فإننا نرى أن من حقّ أي كاتب أو مبدع أن يختار النمط الفني الذي يناسبه دون أن ننكر عليه ذلك، ودون أن ينكر علينا حق الاختلاف معه، حول شعرية النص التي تعدّ المحك والرائز الأساسي في أية تجربة شعرية في أي شكل فنيّ صيغت.
وضعت الأديبة ماريانا مجموعتها تحت مسمّى (قصائد نثر) والحقّ أن المجموعة تقترب في مجملها من البوح الداخلي القريب.
من فن الخاطرة أكثر من انتمائه إلى قصيدة النثر إذا استثنينا بعض النصوص التي يمكن أن تندرج تحت مسمّى قصيدة النثر، وبذلك فنصوصها في مجملها هي كتابات حرة مفتوحة ولا أرى ذلك مما يضير المجموعة فيما لو سمتها (نصوص) أو لو اكتفت بالكلمة الواردة على الغلاف (نثر).
تسيطر على المجموعة مقولات الحب والغرابة والمكان الوطن معبراً عنه بقصائد المكان (أرداد ـ دمشق ـ مسقط الرأس).
تحمل المجموعة بين طياتها عواطف صادقة ونوايا أدبية تعبيرية حسنة، خانتها اللغة في كثير من المواقع إذ إن محدودية المعجم قيّدت الأسلوب التعبيري لدى الكاتبة، فجاءت اللغة في كثير من النصوص دون مستوى الفكرة أو اللقطة المراد التعبير عنها، فكثر التكرار غير الموظّف في نصوص كثيرة كما نلحظ في النص رقم (21) الذي تخاطب فيه الأم بطريقة مباشرة وفيه تقول:
«اسألُ الله
أنْ يصل بيني وبينك
بخطيِ حياة طويل
أرفع ستارة بيننا مسدلة
من خلفها أراك
من خلفها تبدين
أقرب كالحلم
لكن أرفعها لأنها بيني وبينك» ص46
فالنص لا يغوص في عمق الفكرة كما نلحظ مثلاً في نص (إلى أمي) لمحمود درويش، أو النص الذي وجّهه نزا قباني إلى أمّه، وإنما يبقى في إطار الدلالات المباشرة التي تعطي قيادها للمتلقي مباشرة دون عناء، مع تكلف في تكرار المفردات ذاتها الظروف مثلاً (بيني وبينك، خلفها)، ففي هذا النص كرّرت لفظة الظرف عشر مرات، دون أن تحقق بناءً منسجماً مع النص إضافة إلى تكرار ألفاظ (مبدئي، وأسلوب الاستفهام دون انزياحات مما أوقع النص في مطب المباشرة في معالجة الفكرة دون غوص في أغوار الدلالات العميقة لمقولة الأمومة.
ولكن الشاعرة تنجح في بناء نصها عندما تعتمد الاختزال، والقسوة على النص بعيداً عن الهدر اللغوي كما تلحظ في النص (22) الذي تطرح فيه فكرتها معتمدة اللمحة الوامضة المختزلة التي تقدم الدلالة على شكل برقية سريعة، تقول:
«قرصا الذرة الأبيضان
وحدهما
طوال الليل
قرب الموقد يختمران
في انتظار
ذاك الخباز النائم» ص47
وقد تعمد الكاتبة على اللقطة الطريفة في بناء نصها معتمدة الأسلوب السردي الذي غلب على نصوصها جميعاً، فالشاعرة مولعة بالسرد، تقول في النص (23) الذي يخاطب الموتى بأسلوب طريف:
«أجمل ما فيكم أيها الموتى
أنّ من يتأخر عن موعده
لا ينظر في ساعته
قلقاً من ألا يجدكم
ومن يهاجر ينسى لغته ولكن لا ينسى
الطريق الملتوية الترابية المؤدية لمراقدكم
... ...
أجمل ما فيكم أيها الموتى
أنكم لا تذهبون» ص49
الطرافة متأتية من مخاطبة الموتى في احتجاج على الأحياء، وهي لقطة طريفة تعتمدها الكاتبة في التعبير عن الفكرة بضدّها.
ويغلب أسلوب التساؤل في بناء النص، إذ أن أسلوب الاستفهام يغلب على لغة الكاتبة في المجموعة كاملة كما نلحظ في نص (حيرة) الذي يقدم أسلوب تساؤل العارف، الذي يستخدم التساؤل وسيلة للتعبير عن حالة قارة في النفس. وهو أسلوب درامي عندما تستفهم الكاتبة عن حالات معروفة وبالتالي يخرج الاستفهام عن بنيته اللغوية المألوفة، لينزاح دلالياً ويصبح أسلوباً يهدف إلى الإخبار أكثر من ميله إلى التساؤل عن مجهولٍ ما.
ولكن ما يؤخذ على بنائية النص، في بعض الأحيان التزام الشاعرة بما لا يلزم، عندما تتكلف القافية في نص نثري مما يُضيّق من بنائية النص كما نلحظ في النص المعنون (مسقط رأس) الذي تقول فيه:
«لم تناسبني
كل لحظاتك الإنسانية..
كل مقاييسك الاجتماعية..
كل مواقفك الأدبية
لم تعجبني حركتك النسوية
ولا أعراسك الكوميدية..» ص77
فتلاحق القوافي بهذه الطريقة يثقل انسيابية النص، ويضعفها، ويدخل النص في إطار التكلف البارد المتصنع الذي يخرجه من دائرته الشعرية.
كذلك يؤخذ على النص لدى الكاتبة مريانا أنها تنحاز للفكرة وإغواءات السرد على حساب التصوير الفني، إذ أنها لا تهتم كثيراً بالصورة الفنية، ووجود بعض الصور اللافتة يدل على أن الأديبة قادرة على إنتاج صور مميزة فيما لو اشتغلت أكثر على نصوصها في مجموعاتها اللاحقة وقد اتسمت بعض الصور الجميلة الواردة في المجموعة بالحسية في شبك الصورة كما نجد في قولها:
«يشبه الكحل
الذي يرفرف كسنونو في عيني كلما قبّلتني
أبيض وأسود
يشبهك ويشبهني»
فصورة الكحل الذي يرفرف كسنونو توحي بمخيلة رومانسية شفافة قادرة على توليد الانزياحات والصور التي ترفع من شعرية النص فيما لو غذّت نسغ النص.
أخيراً، لا شك أن الأديبة مريانا قرجولي تمتلك في قلبها من العواطف والأفكار النبيلة ما يجعلنا ننتظر منها الأجمل والأكثر ألقاً والمنحاز إلى البداهة والعفوية والقريب المتناول الذي يحاول أن يقدم ما يجول في القلب والفكر دون مواربة، في شعرية قريبة لا تفلسف الأمور. لا سيما عندما تدعمها مقدرة لغوية، وخبرة شعرية، تصهرهما معاً في إطار مخيلة لا تلوثها نظريات حداثية، أو شطحات لغوية لا تعدو أن تكون فذلكة كلامية.
إن الشاعرة تتمتع بمخيلة قابلة للتحريض أكثر فيما لو أرادت ذلك. ولا شك أن دون ذلك ضنكاً وكداً كبيرين.