إلى محمود درويش وهو يسقي أزهاره المنزلية!!
في فيلم ياباني (الدمى)، يصوب شخص مسدسه على آخر.. ويطلق. لتظهر في اللقطة التالية زهرة حمراء صغيرة وهي تسقط على سطح بحيرة. للوهلة الأولى يبدو أن الدم ـ في هذه الفكرة ـ ليس بليغاً حتى الدرجة المثلى: الدرجة التي يطرطش فيها الدم ويسيل.. حتى على زجاج الكاميرا.
إذاً، الدم المسفوح يدخل (ويدخلنا) في مأزق البلاغة، ومثلما يصاب المسدس بالإرتاج، كذلك اللغة. في حالة المسدس تتقدم التكنولوجيا لحل المعضلة، أما في حالة اللغة..
بعد «أوسلو» عاد محمود درويش إلى رام الله، ودخل حيفا والجليل بإذن من سلطات الاحتلال لمدة ثلاثة أيام، ليشارك في جنازة أميل حبيبي. وهناك رأى الشاعر المستوطنات وهي تتداخل مع القرى والمدن الفلسطينية.. تتداخل حتى الدرجة التي تصاب اللغة بالارتاج، وربما بسبب من هذا.. كان الإنصات إلى الصوت الداخلي في الذات وفي اللغة، وكانت المراقبة إلى الممارسات والمزاولات السرية التي تحدث هناك.. تحت سطح الجلد!..
على أية حال، لم يحدث هناك حوار بين الشاعر وبين «الجنرال»..
في رواية بعنوان: الجنرال (ممدوح عدوان.. شكراً) تصل فرقة موسيقية على طريق الخطأ إلى معسكر العدو، وتجد هذه الفرقة الموسيقية نفسها في مأزق خطير، إذ قرر قائد المعسكر إعدام أفرادها. لكن حواراً يبدأ بين قائد المعسكر وقائد الأوركسترا، يحاول فيه الجنرال أن يقنع الموسيقي بالعزف لجنوده. وفي حوار من هذا النوع لا يفهم فيه أحد أحداً، ينبثق السؤال: ما جدوى الموسيقى؟ فيكون الجواب: وما جدوى الحرب؟!.
لكن الحوار يستمر بين القائدين.. حتى تصل الشفافية إلى درجة أن يقول الجنرال: إن الحرب فن راق أيضاً، وإن إدارة الجبهة مثل قيادة الفرقة الموسيقية. ويقول الجنرال للموسيقي: أمام الدبابات والبنادق والمدافع.. أنا أيضاً أسمع سمفونية وأدير أوركسترا..
ما يكشف عنه الحوار.. هو هذا الفارق المثير: وهو أن الجنرال يقود سمفونية الموت والفنان يقود سمفونية الحياة.
طبعاً لم يحدث حوار بين محمود درويش وبين «الجنرال» الذي أحدث كل ذلك الخطأ في ملامح المكان: في تاريخه وجغرافيته ووجدانه.. وحتى وشومه. لكن ما هو أكيد أن محمود درويش كفّ عن سقاية زهرة الفولاذ، وذهب إلى سقاية أزهاره المنزلية. ببساطة، ذهب إلى نفسه وأحوال جسده وشؤون قلبه. وبين المرء ونفسه تصبح البلاغة تهريجاً، وهنا.. يتقدم الاقتصاد اللغوي وتخفّ المجازات والاستعارات والكنايات..
في تأبين الموتى، لا بدّ أن اللغة تتعرق، خاصة إذا جاء الموت في الوقت غير المناسب (ومتى جاء الموت في الوقت المناسب؟!) إذاً كيف سيتصرف محمود درويش في تأبين أميل حبيبي، ونزار قباني، وممدوح عدوان، ومحمد الماغوط، وعبد السلام العجيلي؟!. من اللؤم من مراقبة اللغة في هذه الحالة.. ربما الأفضل أن نقرأ البياض.
لكن هنا ثمة مفارقة، فمحمود درويش الذي يشارك في تأبين الراحلين، يملك تجربة (تجربتين) مع الموت. وقد تحدث عن هذه التجربة في مجموعته الشعرية: جدارية. كانت التجربة الأولى مع الموت في العام 1984 حين تعرض درويش لموت سريري، ووصفها «وقتها كنت أرى نفسي نائماً وسابحاً على غيوم بيضاء، وعندما شعرت بالوجع كانت تلك اللحظة التي أعادوني فيها إلى الحياة». وفي التجربة الثانية تحدث عن دخوله في هذيانات كثيرة وعن خوف عميق «من أنني نسيت اللغة..».
حتى في الموت، هجس محمود درويش باللغة. ولهذا يحق لنا أن نراقب لغة الرجل.. التي هي هويته، وفيما بعد.. لنا أن نقول له وهو يسقي أزهاره المنزلية: إذا ما سقطت إحدى زهورك ـ هكذا بلا سبب ـ فذلك لأن رصاصة انطلقت من مسدس.. مازال حتى الآن «بليغاً».