الواو حسب ما قبلها!!..

أحب حرف الواو، ليس لأنه يذكرني بتلك «الواوات» التي يطلقها المولودون لحظة ولادتهم.. حاملة معها كل ذلك الفرح والبكاء النظيف من الألم. وأحب حرف الواو، رغم أنه يذكرني بتلك «الواوات» الشنيعة التي تطلقها سيارات الإسعاف.. التي تسبب لي الكآبة. ورغم جميع الدروس الوطنية عن جدوى التفاؤل، لا أستطيع حتى الآن أن أتخيل أن سيارة الإسعاف قادرة على إنقاذ حياة أحد، ليس بسبب العجقة في الشوارع أو نقص المعدات الطبية في المستشفيات، بل بسبب الخطأ في البنية..

أحب حرف الواو، ليس لأنه حرف عطف، فقد التصق بذاكرتي لوقت طويل من الزمن، أن كلمة «عطف» هنا تعني الحنان.. وربما يكون ذلك عائداً إلى أن الآنسة التي علمتنا «حروف العطف» في أول درس قواعد.. كان اسمها حنان، ولطالما تساءلت عندما كنت تلميذاً في الصفوف الإبتدائية: لماذا يسمونه حرف عطف ولا يسمونه حرف حنان؟! وعرفت الإجابة، لوحدي، فقد كانت تدرّس الشعبة الأولى في الصف الرابع، الآنسة عواطف. حدث ذلك.. قبل أن يأتينا مدرسون للغة العربية، قساة وبليدون، ويتكلمون بلغة أخرى، فصيحة.. ثبت لي فيما بعد أنهم يتلعثمون ويرتكبون فظاعات لغوية مخجلة، ويفرحون ويقبضونها جداً في أداء أدوار كراكوزات وعرفاء احتفالات في المناسبات الوطنية والقومية.

ما لنا ولهذا كله، فأنا أحب حرف الواو، ليس لأنه من أسهل الحروف إعراباً، فعلى الرغم من معرفتنا بأنه حرف عطف، فقد دأبنا طوال سنوات تعليمية طويلة ومرهقة على إعرابه على هذا النحو: الواو حسب ما قبلها (!!..) وكان ذلك يعني شيئاً واحداً: أننا لا نعرف شيئاً في الإعراب..

مرة، طلب الأستاذ من أحد الطلاب أن يعرب شطراً شعرياً «ودّع الصبر محب ودعك»، فسارع الطالب إلى تنفيذ الخطة الأولى في درس القواعد، أو الخطة الوحيدة، فأعرب الواو حسب ما قبلها. وحين ضحك بعض الطلاب في الصف، عرف الطالب أن الواو هنا ليست هي نفسها الواو التي حسب ما قبلها. كان الطالب شارداً، ولم ينتبه!..

ومرة أخرى، كنا في الصف الأول الثانوي حين تعرفنا على الشاعر الجاهلي امرئ القيس وقصيدته المعلقة، وتعرفنا آنذاك على بيته الشعري الجميل:

«وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله/ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي»، وكما هو شائع ومتوقع، فقد سألنا الأستاذ عن إعراب الواو في أول البيت، فقمنا جميعاً بإعرابها على الطريقة الفلوكلورية: الواو حسب ما قبلها.. الأمر الذي أثار غضب الأستاذ لدرجة أنه قام باستدعاء المدير. ولم يكن المدير موجوداً، فقام باستدعاء نائبه، ولم يكن نائبه موجوداً أيضاً، فقام باستدعاء أمين السر القاسي والصارم. وأعاد الأستاذ علينا طرح السؤال مجدداً بحضور أمين السر، فأعدنا إعرابها مجدداً بحضور أمين السر على أنها واو حسب ما قبلها مع فارق أننا كنا خائفين جداً. والمفارقة.. أن أمين السر كان هادئاً ولا يبدو عليه الغضب، بل كانت ملامحه أقرب إلى التساؤل عما يحدث. وفهم أمين السر أن ما يحدث هو أمر جلل وعار على المدرسة بعد المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عن الجرائم التي ترتكب بحق اللغة العربية، وعائنا الحضاري ورمز عروبتنا وقوميتنا، فغضب أمين السر غضباً شديداً حين استنتج أننا قمنا بكل تلك الجرائم والشناعات والأخطاء التي تنال من لغتنا الأم، فعاقبنا جميعاً بالضرب بالعصا على أيدينا. لم يبقَ من مدة الدرس وقت ليخبرنا الأستاذ، أو أمين السر، عن الأخطاء التي ارتكبناها، ومع رنين الجرس (اليدوي) أعلن الأستاذ أن وظيفتنا للدرس القادم هي إعراب الواو، وهي وظيفة رسمية..

في الدرس القادم، عرفنا أن الواو في بيت شعر امرئ القيس هي واو «رُبَّ»، وليست الواو التي حسب ماقبلها، وقام جميع الطلاب بلعن «رُبَّ» هذه.. حتى نشفت حلوقهم.

أحب حرف الواو، لأنه حرف بليغ جداً، ومعبر جداً، ومكثف جداً، ويختصر اللغة جداً. فبين المرء ونفسه تتراجع البلاغات اللغوية والأداءات التعبيرية، وحينما يكون الإنسان وحيداً، يسمع أو يقرأ أو يرى شيئاً جميلاً، يتقدم حرف الواو..

أو حين يضيق الزمن ويتقسم إلى لحظات، إلى رفّات عين، لا تكفي لينشئ المرء جملة، أو يردد عبارة، يتقدم حرف الواو. فقط.. تخيلوا امرأة صاعقة، بجسد خرافي، تلتقونها لطرفة عين، أو تجتازكم للحظة. لحظة.. لا يمكن أن تتسع إلا لحرف واحد: واو!!..