الشاعر الشهيد كمال ناصر.. عشر طلقات في الفم.. وبقي الصوت عالياً
بغيرة النبيل من منافس عشق الكلمة «الوطن»، تساءل كمال ناصر في جنازة غسان كنفاني صيف 1972:
«هل ستتاح لي مثل هذه الجنازة يوماً»؟
لم تتأخر عصابة «إيهود باراك». حشدت عبقريتها وعملاءها وإلى فردان توجهت، صعدت باثني عشر حقداً لحمياً، أسرعوا والموت يسبقهم ويدلهم على الطريق بسبعة منهم نسفوا باب الشقة، أطلقوا نيران حقدهم المكتوم على الجدار. دخلوا غرفة النوم، دمروا كل ما فيها، ولكن لم يكن في الغرفة أحد، فكمال لا ينام. كان يجلس على الكرسي، وخلف الطاولة، يفكر، يحلم، يكتب، ويشرد في الوطن و«الكلمة الملاك».
أما الكتب اللحمية فتحمل حقدها مرة أخرى، وتهرع إلى الجريمة، يتدافعون عبر الدهليز إلى الصالون، يدخلون، يلهثون سماً ومالاً، ويستعجلون إلى الغرفة... ومن الشرفة يقف الخمسة الباقون، ومن خلف كمال يرمون قنابلهم، ويطلقون الرصاص بمسدساتهم ورشاشاتهم.
حاصروه بين الكرسي والطاولة... أطلقوا ثلاثاً وثلاثين رصاصة، عشرة منها في فمه حيث الصوت يخرج الهامات.. وهو الوحيد في المكان يطلق رصاصتين.. ولا ينجو، بل يلتصق مع الكلام، كلام فتح شهيتهم للرصاص، وترك لذاكرتنا هذا السؤال: لماذا أنت يا كمال؟!! هل لمحوا براءة النفس في عينيك فقتلوك؟ أم هل أزعجتهم مقالتك الأخيرة وكأنها الوصية: «أما القيادات فتتغير، وأما الأشخاص فيزولون، وتبقى القضية أكبر.. ولا بد أن يذوب الجزء في الكل، وأن يذوب الكل في الثورة. قبل أن تسقط الثورة الأجزاء التي لا تستحق الحياة». وأنت ممن يستحق الحياة.. وكنت تليق قائداً لثورة.. فقتلوك..
عشر طلقات دخلت فمك والباقيات عزّ عليها هذا السفور فتطهرت بخفر جسدك، عشر طلقات أعلنت حدادها وتأسفت.. عشر طلقات أعلنت عن تمزقها، فسردت حكاياتها معك وترحمت:
الطلقة الأولى: غزة والبحر وسرير أبيض، ومولود صغير اسمه: كمال بطرس ناصر.
الطلقة الثانية: بيرزيت حيث المصطبة الأولى، والبيت الأول، والكنيسة الأولى، وحيث كمال يلعب قرب زيتونة رمت بأغصانها على شرفة لتوشوش عينيه كل صباح، وتحميه من الشمس ومن غدر الطلقة التالية، وقد أصبح في الثالثة عشرة من العمر، يتحلق الأهل من حوله ليسمعوا شعراً له نشرته جريدة الأهرام المصرية:
هذي فلسطين الأبية
في السلاسل والقيود
يلهو بها الخصم العنيد
وليس تنفعها الجهود
قرت بها عين الجبان
وكل نمام حسود
ما بين ظلم الانكليز
وبين طغيان اليهود
في الرابعة: صدره يتألم، يسمع ضجيج سباق لأرقام سرعة تصطف أربعة... أربعة.. تشعل تاريخاً وتتقد:
1945: كمال يتخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت بعد نيله شهادة البكاليورس في الأدب والعلوم، ويعود مدرساً إلى بيرزيت.
1948: النكبة
1952: انتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي.
1956: كمال ناصر نائباً في البرلمان الأردني عن مدينة رام الله.
1967: النكسة، أما هو فمبعداً وبعيداً عن الديار.
1969: كمال عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً لدائرة الإعلام والتوجيه.
أعوام وأعوام، وكمال مازال يبتسم، يتنفس، ينبض.. والرصاصات تؤلف زوبعة وتحوم، فتنجذب الخامسة إليهم وتدور.. وتتسرب للزمان أوراق صحف ومجلات.. فتنتشر الكلمات، كلماته، وتحلق العناوين، عناوينه:
«شعب أضحكته النكبة»، «هذه المناشير السوداء»، (جريدة «الجيل الجديد» 1949 ـ 1950 القدس).
زاوية حديث اليوم «إليها.. إلى الحرب»، زاوية من يوم إلى يوم «هذه القدس.. فحرروها»،
«ولقد هزلت»، «رسل الإنسانية يتخلون عنا»، «وغداً عيد»، «وضريبة الفكر» و... و....
(جريدة «فلسطين 1955» الضفة الغربية)..
«البعد الإنساني للثورة الفلسطينية»، «البعد الأممي لمعركة المصير»، (مجلة «فلسطين الثورة» 1972 ـ 1973)
في الطلقة السادسة: ضباب..
وفي السابعة: أشعاره على الحيطان، تأتي لتذكره أنه شاعرها وناطقها، فيهتز المكان وتتلون الأصداء بلون طاقة الخلق فيه وفينا، فتنبعث من الزوال قصائده لترصع وحشتنا، تتلقفها جدران الغرفة، وتعجنها بشغف الحياة مستغربة دهشة:
«ويشهد الله هذا الدرب لا طمعاً/ ولا ادعاء ولا زهواً مشيناه/ وإنما هزنا في بعث أمتنا/
جرحٌ على صدرها الدامي لثمناه»
ويتوالى الأنين:
«إننا حملنا عن المصلوب رايته/ وقد نحتنا عن الصلبان صلبانا»..
ويتمزق الصدى.. ويتوالى الأنين:
«إنها قصة شعب ضللوه/ ورموه في متاهات السنين/ فتحدى وصمد/ وتعرى واتحد/ ومضى يشعل ما بين الخيام/ ثورة العودة في دنيا الظلام»
ويتباطأ الصدى ويعلو الغباش ونسمع نواح:
«وقفت أنتظر القطار/ عمري انتظار/ الذكريات تشدني وتهينني/ وتحط بي عبر الديار والاحتقار/ يجتر أحلامي ووجداني فأشعر بالدوار/ الخوف والغثيان/ والروح البوار/ المجد، والتاريخ، والأحلام عصفور وطار...»
وفي الطلقة الثامنة: سواد، صور تتقدم، تتوالى، تبعد، تعود.. ويزدحم الفراغ، وتأتي من بعيد صورة تتحول جسداً، يمدُ يده.. لعله غسان.. بل إنه غسان.. وبالكاد يرتل.. شعراً لكمال:
«فلابد من عودتي للحياة/ ولا بد لي في العلا من إياب/ إذا هتف الشعب يوماً بروحي/ أطلتُ له من حنايا التراب»
في التاسعة: جسدٌ على الأرض، وروحٌ في السماء.
وفي العاشرة: عشر طلقات مرت من فمه.. عشر طلقات دخلت فمه، ولم يسكت دمه، وفي العاشرة سجل التاريخ.. العاشر من نيسان 1924 كان مولده، وفي العاشر من نيسان 1973 كان يوماً لغفوته وصحوته الأخيرة..