رائد وحش رائد وحش

بين الرسم والكتابة نزار قباني وأدونيس و النوّاب... رسامون أيضاً

ليست علاقة خفية، أو سرية، يستحي منها صاحبها، تلك العلاقة التي يقيمها الكاتب مع فن الرسم. هي أكبر من صفة الزوجة الثانية كما يسخف عادة كل تعدد.
فالكاتب يحاول إظهارها للضوء كما النصوص التي يكتبها، لكن قصور نظر الآخرين الذي لايراها إلا في حيز النص الأدبي، محور الاهتمام الرئيسي، يجعله يعمل على مواراتها، بدل أن تلقى إلى مصير معروف سلفا، هو الغبن والاستخفاف.‏

يلزمنا الوقوف بجدية أكثر حيال هذا التزاوج الحر بين مجالين تعبيريين، يتجول بينهما شخص واحد، إذ قلما ننصف رسومات الكاتب. دائما نصير قضاة، نحكم لصالح المكتوب، ولانلتفت بالإنصاف إلى تلك الحالة المستقلة، لرسومات حرة ذات أدلة دامغة على قدرة الفرد في تحقيق تعدده، كيف نقبل اجتماع السينمائي والشاعر في شخصيات كبيرة بمستوى بيير باولو بازوليني، وجان كوكتو (وهو رسام أيضا)، ونكاد نجهل تجارب مضيئة، كما في حالة ولهيم بليك (1757-1827)، ود.ه. لورانس (1885-1930)، وقد أجادا في مجال الرسم، وقدما ما هو مهم مثلما عرف عنهما في مجال الكتابة.‏
حين يبدأ الإنسان تبلوره الفني، يصاب بإغواء أكثر من نوع، فهو يرسم، ويكتب، وأحيانا يعزف، أو يمثل، وفيما بعد، حين تتوضح معالمه الداخلية، يغربل، نفسه من الأشياء التي يعرف أنها لن تعطيه، ولن يعطيها، وهذا لا يعني أنه سيقوم بإعلان براءة، أو غسل اليدين، إنما على الأغلب ستظل تنبض في أعماقه كرغبات، وستتحقق في الشكل الذي وجد نفسه فيه، من جهة، كما أنه سيظل يتعاطاها بروحية المتلقي، وهذا ليس بالشيء القليل.‏
يرسم الكاتب حين لايجد في اللغة ما يسد رمقه، حين تنسد جدرانها أمام سعيه، فيذهب إلى الفضاء البصري، مشكلا النص الآخر، أو البديل، متمردا على سلطة اللغة، وينقذ العالق في نفسه من نصوص مستعصية على القول، الكلمات ، الكتابة، حين يأيتها من زاوية البصر.‏
الكثير من كتاب العالم مارسوا الرسم بالتوازي مع انغماسهم في الكتابة بكل أشكالها. فيكتور هوغو مثلا، كان المجهول من نتاجه هو رسمه.‏
غونتر غراس رسام محترف بقدر ماهو روائي وشاعر محترف، وقد أصدر مجموعة شعرية ضمت قصائد ولوحات، في مناخ تعبيري منسجم تماما. إدواردو غاليانو لايترك كتابا يطبع قبل أن يملأه بموتيفات من شغله.‏
لعل جبران خليل جبران الكاتب العربي الأكثر شهرة في كونه رساما، مع أن رسمه يعاب بأنه ظل تكملة لما كتبه، أعني أن لوحته ظلت ذات بعد أدبي فاقع، وكأنها نص يروى من خلال الريشة. وربما لا تبتعد (رقيمات) أدونيس عن هذا التوصيف، فتلك الرسوم التي باتت تظهر على أغلفة أعماله، جامعة الكتابة والنمنمة والرسم والترقيش، تنطلق من رغبة في الاحتفاء بالشعر عبر فنون الزينة، لكن نكهتها تختلف، حيث يجعلك (أدونيس) تشعر أن قصيدة امرىء القيس مثلا هي هكذا هذا شكلها الملموس. عن هذه الطريقة في الرسم يقول أدونيس في أحد حواراته: (لا أعتبر ما أقوم به رسما، بل هو شيء اسميه (رقيمة) ومحاولة لابتكار شيء يكون نتاجا لكولاج من خامات مختلفة، ورقيمة كلمة عربية تشير إلى التشكيل والكتابة، أنا أحاول القيام بتشكيلات واستخدم الكتابة كخلفية لونية).‏ ومثله أسلوب سليم بركات في جعل القصيدة حالة بصرية.
نزار قباني كان يضع رسومه على أغلفة كتبه التي ابتكر لها قطعا مختلفا. شفافيته الشخصية كانت ملتصقة بتلك الألوان ذات المذاق الأنثوي الحار. وهو عبر عن هذا التزاوج في واحد من أجمل عناوينه (الرسم بالكلمات) مظفر النواب كان حالة مائية في الرسم، ذات مرة صور التلفزيون السوري فيلما عنه، وقد ظهرت فيه لوحات عديدة للشاعر، وربما منها ما كان على غلاف مجموعته العامية (الريل وحمد). جبرا ابراهيم جبرا الذي لم يترك للفن بابا، رسم ونحت و علاوة على هذا وذاك، مارس النقد التشكيلي، خاصة في مرحلة إقامته في العراق، إذ كتب خريطة كاملة للفن التشكيلي هناك، هذا غير ترجماته في باب النقد التشكيلي مثل كتاب (آفاق الفن)، أو حتى كتابه (تأملات في بنيان من مرمر).‏
لدينا أيضا غسان كنفاني مدرس الرسم وصاحب اللوحات المؤثرة، أو أعماله التي صارت ملصقات، أو حتى تصميمه لشاعر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. الشاعر خالد أبو خالد صاحب تجربة مميزة، نالت قبولا من جمهور المتلقين، وثمة كثيرون يرون أنه تشكيلي أكثر مما هو شاعر.‏
هناك أيضا تجربة مميزة للروائي الأردني مؤنس الرزاز الذي عرف نتاجه الأدبي بشكل واسع، فيما نتاجه الفني ظل مجهولا على ماله أهمية. وفي الأردن أيضا الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، وقد ساهم مع كتاب آخرين في تجربة تشكيلية قدمت للضوء ،هناك الشاعر اللبناني عباس بيضون يرسم، وكذلك الشاعر العراقي فوزي كريم، والشاعرة إيتيل عدنان، والشاعرة سوزان عليوان التي تستلهم مناخات الطفولة.‏
في سورية يبرز الشاعران نزيه أبو عفش ومنذر مصري اللذان وازيا بين تجربتي القلم والريشة، بحيث يكون لكل حقل شخصية متماسكة فنيا، ولكون مناخيهما متباينين في الشعر، إذ ينحو أبو عفش إلى اكتشاف معاني الألم والعذاب، ويمضي المصري باتجاه فضاء الفرح، فسوف تحمل اللوحة هم القصيدة، لنجد أن نزيها مصر على رسم بورتريهات الكائن مكسورا، متألما، وحيدا، في استعارة لبروفيلات المسيح، أما منذر صاحب (مزهرية على هيئة شكل اليد) شعرا، فيرسم براحة ورودا ومصابيح لا تروم إلا المتعة و الزهاء وبين الشعراء والكتاب هناك طه خليل ودلدار فلمز.‏
سأل جان كوكتو صديقه بيكاسو (مارأيك برسومي؟) فأجابه: ( إنها بجودة كتاباتي). على ما تحمله هذه الطرفة من أهمية للإتقان والإجادة، لابد من الإشارة إلى أن الرغبة لدى كثيرين ممن أشرنا إليهم، أو أغفلناهم، أكبر من الإنجاز، لكن يكفي أن تكون للكاتب رغبة بانفتاح تام على لانهائية الفن، ليورط نفسه فيه من كل الجوانب، دون توفير شيء بات ممكناً، حتى لو أتى برسوم مثل كتابة بيكاسو، فما يهم في النهاية هو الامتلاء باللحظة، وفتح الذات على الأفق..‏