أُمَّةُ «اقْرَأْ» جاهلة
كانت أمة «اقرأ» في غابر الأزمان وسالفها أمة قرَّاءة، حيث كان العلماء والكتاب أصحاب حظوة ورعاية عند مَنْ بيدهم أمر العباد والشجر والحجر من حكام وأمراء، ويذكرنا التاريخ بمجلس الرشيد الذي كان يحضره كبار الشعراء والكتاب، ويتبارون في إلقاء جميل القصائد، وأنيق الكلام. في وقت كان الآخر الغربي - إن لم يكذب التاريخ- غارقاً في دياجير الجهل، ومؤمناً بقدرية فجة، وخرافات وغيرها.
لكن الموازين انقلبت، ودار الزمن دورته، فصارت أمة «اقرأ» في ظلام دامس، بينما أدرك الآخرون أن تطور الأمم ورقيها مرهون بالكتاب والقراءة والدأب، فوصلوا إلى ماوصلوا إليه الآن، أما نحن فنقول: إنهم سيحلون في سعير النار عندما تحين الساعة، ونحن سننعم بالحوريات الحسان وبأنهار الخمر. وعندما نُحاصَر من التاريخ ومساءلته القاسية نقول: إنهم في غزواتهم في الأفلاك وفتوحاتهم العلمية الباهرة إنما قرؤوا كتابنا، واستخلصوا نظرياتهم وإمكانياتهم العلمية منه. هكذا نحن بارعون في تحويل مستنقع الجهل إلى دوحة العلم والمعرفة، عباقرة في تحويل كل هزائمنا على مر التاريخ وما أكثرها إلى انتصارات ساحقة وماحقة .
كم سيكون فظيعاً عندما يعود عظيم الشعراء «المتنبي» إلى الحياة ونستضيفه في أحد مقاهي «المثقفين» ويرى بعينه بؤس هذه الأمة، ألن يحرق قصائده الجميلة وحكمه الرائعة ؟؟ هل سيتذكر في لحظة حنق وقهر ماقاله يوماً:
وما العشقُ إلا غرَّةٌ وطَمَاعَةٌ
يُعَرّضُ قَلبٌ نفسَهُ فيُصابُ
أعَزُّ مكان في الدُّنَى سَرْجُ سابح
وخيرُ جليس في الزَّمان كتابُ
أي: سرج الفرس أعز مكان لأنه يمتطى لطلب المعالي، والكتاب هو خير جليس لأنه مأمون الجانب فلا أذى ولاشر.
نعم ولنرش الملح على الجرح جيداً، المواطن العربي وفي خضم هذه الفتوحات العلمية اليومية، ومخر عباب البحار والسموات والمجرات من قبل الآخرين الموعودين بجهنم الحمراء لايقرأ.. وماهو بقارئ!! وكله أنفة وعز وافتخار بالنفس.
قبل خمس سنوات كنت في احتفال «كتاب في جريدة» في مكتبة الأسد حيث ارتجل المشرف على المشروع الشاعر العراقي شوقي عبدالأمير كلمة مازلت أتذكر بعض أرقامها حيث قال: لايقرأ العربي من كل كتاب يصدر إلا بنسبة واحد إلى ثلاثمائة ألف، وإن مايستهلكه العالم العربي سنوياً من ورق في تصنيع الكتب يوازي ماتستهلكه دار نشر أوربية وحدها، وإن بلداً صغيراً مثل بلجيكا عدد سكانه عشرة ملايين يستهلك من الكتاب طباعة ونشراً وقراءة بقدر مايستهلكه العالم العربي كله، وقال أيضاً إن كل ماترجمه العرب منذ العصر الأموي يصل إلى قرابة مئة ألف، وهذا مايعادل ماتقوم به إسبانيا وحدها في عام واحد.
والآن وبعد هذه السنوات الأرقام أكثر خجلاً، فالمواطن العربي يقرأ في العام الواحد -بحسب أحدث الإحصائيات- ست دقائق فقط أي نصف دقيقة في الشهر، وكل عشرة آلاف مواطن عربي يقرؤون جريدة واحدة.
الأمية في العالم العربي «أي الذين لايفكون الحروف» فظيعة ومخيفة، ولها دور كبير في فرملة كل تقدم، وازدهار معرفي، حيث يصل عدد الأميين العرب وبكل اعتزاز إلى ثمانين مليون من أصل ثلاثمائة ونيَّف.
في البحث عن الأسباب:
أسباب هذا التردي كثيرة أُجْملُهَا في:
● غياب الفضاء الديمقراطي، والجهل، والغرق في الغيبيات. حيث تحكم الشعب العربي أنظمة توتاليتارية تشيع التجهيل، ولاتطلب العلم والحض عليه. والديمقراطية وحدها كفيلة بقراءة الواقع قراءة صحيحة، ووضع الحلول الناجعة لكل المشاكل، ومن ضمنها محاربة الأمية.
● عدم توفر تقاليد للقراءة. وهذه النقطة على درجة كبيرة من الأهمية، ففي الغرب يشجع الأهل أولادهم لاقتناء الكتاب، والأولاد لايرون آباءهم إلا وهم مبحرون في لجة المطالعة في المنزل أو في المترو أو في الطائرة، وهذا مايكسب الصغار هذه العادة الحميدة مستقبلاً، أما نحن فنعلم أولادنا ركوب الخيل والسباب والكذب والنفاق.
● فساد المناهج الدراسية، حيث تعتمد هذه المناهج على نسف التفكير والإبداع والخلق، فيحفظ الطالب بصماً المعلومات، ويفرغها على ورقة الامتحان لينال النجاح. وهذه غايته الأسمى، فتخرج أجيال غبية إلى المجتمع لاتتذكر شيئاً بعد انتهاء الامتحان، وهذه أيضاً سياسة مبرمجة ومدروسة من النظام العربي الحاكم. وهناك مناهج عربية «السعودية» مثلاً ترفض الآخر.. الأمر الذي يخلق أجيالاً تؤمن بالتطرف، والتعالي الإثني والديني، ومقت كل ماهو غير سائر على نهجها.
● ارتفاع تكاليف الكتاب، وتدني مستوى المعيشة لدى المواطن العربي حيث لايفكر إلا بامتلاء معدته الخاوية على الأغلب، ولايجد نقوداً كافية لشراء كتاب باهظ الثمن. والنظام العربي لايُحمّسُ شعوبه على القراءة كي يطول أمد بقائه على رقابها، وليستمتع الشعب بالذل والمهانة، ويقطع كل تفكير يعكر صفو ذلك النظام بضرورة التغيير والتطور وغيرهما من الكلمات «البائسة» في حين أن الدولة عند الآخرين تتدخل، وتدعم الكاتب، وتعطيه رواتب عالية ليتفرغ للإبداع والكتابة فقط، وكذلك تدعم الكتاب بإصدار النسخ الشعبية والزهيدة الثمن ليقرأه الجميع.
بالمجمل ستكون الأرقام أكثر رعباً حين نعرف أن الأمية الحضارية ينبغي أن نحسب حسابها أيضاً فهي تتجاوز المتعلمين وحتى الحاصلين على الشهادات الأكاديمية . . فأن لاتلم بالتقانات الحديثة والكومبيوتر والانترنيت وغيرها، فأنت أمي بامتياز. . . ويا أسفي على أمة «اقرأ».