تراث نصير الدين الطوسي في ذمَّة التاريخ

يعتبر نصير الدين الطوسي من أهم العلماء في التاريخ الإسلامي، وخاصةً في مجال الرياضيات والفلك والفلسفة، فهو مؤسس علم المثلثات، ومن أهم من ساهموا في وضع أسس الهندسة اللاإقليدية (التي استندت إليها النظرية النسبية بعد قرون)، وقد خلده العلماء المعاصرون بإطلاق اسمه على إحدى بقاع سطح القمر اعترافا بإنجازاته في علم الفلك، كما يقال إنه أفضل من اشتغل بالفلسفة بعد ابن سينا.

ورغم هذا فقد لاقت شخصية الطوسي الكثير من الإدانة من بعض المؤرخين القدماء والمحدثين، وذلك بسبب دوره أثناء الغزو المغولي لأراضي الدولة العربية الإسلامية، حيث كان مقربا جدا من القائد المغولي هولاكو، إلى درجة ان هذا الاخير قد اصطحبه معه عند غزوه لبغداد وإسقاطه للخلافة العباسية، مما جعل البعض يعتبرون الطوسي أحد اكبر رموز الخيانة في التاريخ الإسلامي، لكن نظرة أعمق للأمور تظهر لنا صورة مختلفة عن نصير الدين الطوسي، فذلك العالم الفذ كان قد رأى بأم عينيه دمار الحضارة والتراث الإسلاميين بأيدي المغول وقد قرر على ما يبدو أن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه منهما بأية وسيلة، وتحقيق نهضة جديدة للعلم والعقلانية الإسلامية من قلب الرماد الذي أوصلهما إليه المغول ومن سبقهم من الغزاة.

كان الطوسي أحد الناجين القلائل من المجزرة التي ارتكبتها قوات جنكيز خان في مدينة نيسابور إحدى اهم حواضر الحضارة الإسلامية، وقد لجأ بعد فترة إلى قلعة «آلموت» كبرى القلاع الإسماعيلية، التي وفرت مع غيرها من القلاع الإسماعيلية الحصينة الملجأ لكثير من علماء ومثقفي ذلك العصر مما مكنهم من ممارسة نشاطاتهم بأمان وحرية تامة في تلك الحقبة التاريخية القاسية، ولكن ذلك الملجأ الأخير سرعان ما تهاوى تحت زحف قوات هولاكو حفيد جنكيز خان، ومع سقوط قلعة آلموت بيد المغول اضطر الطوسي للدخول في خدمة هولاكو الذي كان بحاجة للكوادر العلمية في إدارة شؤون امبراطوريتة الآخذة بالاتساع.

وقد نال الطوسي حظوة كبيرة لدى هولاكو بسبب تعدد مواهبه، ولذلك فقد أمره بمرافقته أثناء غزوه لبغداد، فحاول الطوسي جاهدا التخفيف من هول الويلات التي وقعت على بغداد وأهلها، ونجح باستنقاذ العديد من الأرواح، كما عمل على إنقاذ العديد من الكتب النفيسة من الإتلاف.

وبعد فترة من المجزرة طلب من هولاكو أن يسلمه الإشراف على الأوقاف الإسلامية ومواردها، فكان له هذا، وعندها عمل على استغلال ما بأيديه من أموال في افتتاح الكثير من المدارس في مختلف الاختصاصات والإنفاق على طلابها، كما قام بإعادة بناء الكثير مما تهدم في بغداد. ثم بدأ بتنفيذ أهم خطوة له على الإطلاق عندما نجح بإقناع هولاكو بأن يفتتح له مرصدا فلكيا كبيرا هو مرصد «مراغة» الذي حوله الطوسي إلى أهم مركز علمي أكاديمي في العصور الوسطى على الإطلاق، حيث جمع فيه كبار علماء ذلك العصر على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم، مستعيدا بذلك تقاليد التسامح الفكري إبان إزدهار الحضارة الإسلامية، وأنشأ فيه أيضا واحدة من أكبر مكتبات العالم في ذلك العصر حيث ناهز عدد كتبها الأربعمائة ألف كتاب . فأعاد ذلك المرصد إحياء الحضارة الإسلامية وأرجعها إلى قمة إزدهارها بعد أن كادت تندثر.

ويمكننا القول إن النهضة الثقافية الكبيرة التي عرفتها الدولة الإيلخانية (دولة هولاكو وأحفاده الذين اعتنقوا الإسلام فيما بعد) قامت على أكتاف الطوسي، ليساهم بذلك في إنتاج  واحدة من أكثر ثقافات الإسلام غنى وتنوعا بعد اندماج المؤثرات الثقافية التي حملها المغول من شرق آسيا مع المؤثرات الثقافية العربية الإسلامية.

كل هذا يجعل من الدور الذي لعبه الطوسي في التاريخ لا يقل عن الدور الذي لعبه قادة المماليك (قطز وبيبرس) الذين صدوا الغزو المغولي عن مصر وبقية العالم، ففي حين حافظوا هم على ما تبقى من الأرض، حافظ هو على ما تبقى من الحضارة والتراث........ والذاكرة.

■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين2/نوفمبر 2016 11:34