سرديات لتزجية الوقت(1) السيرة الشعبية لتلفزيوننا الوطني!..
يا إلهي..كم كان رائعاً في ذلك اليوم، -أبي، في ذلك المساء البارد حين جاء بتلفزيون أحمر (شارب 12 بوصة). على بعد مترين، من الطربيزة الواطئة.. جلسنا غير مصدقين، نرتعش ونرجف (ليس من البرد، بل بسبب الفرح) ونشاهد التلفزيون.. ثم لم نعرف متى سقطنا في النوم..
وأذكر.. شاهدت الكثير من الناس الجالسين في غرفة واحدة كبيرة جداً، أكبر من المدرسة نفسها. كانوا يصفقون بقوة بين الحين والآخر، وأحياناً.. كانوا يقتربون منا كثيراً، ويلصقون وجوههم على الشاشة، واحداً واحداً، وبدوا كأنهم يعرفوننا فقد كانوا ينظرون إلينا بطرف عيونهم. كنت على وشك أن أسأل أبي: هل يعرفوننا؟! ولكنني فضلت عدم السؤال كي لايفوتني شيء. وكان بعضهم يبتسم ثم يحاول أن يخفي ابتسامته، والبعض كان خجلان، أو خائفا.. هكذا من دون سببً، رغم أنهم كبار مثل أبي وأكبر..
أيضاً، شاهدت المزارع والكروم والسواقي والحقول. كان الفلاحون والمزارعون يعملون بنشاط، من دون تذمر، والفلاحات يقطفن التفاح ويخرجن البطاطا من الأرض، وبعد الانتهاء من العمل كانوا يجتمعون ويدبكون سوية فرحين.. من كثرة التفاح والبطاطا، ثم بدأوا يكلموننا. وفكرت.. يا الله ما أحلى حياتهم، إنهم يحبون بعضهم بعضاً. كانوا يشبهوننا بأزيائهم ولكنهم يتكلمون بطريقة أخرى تشبه الطريقة التي نقرأ فيها الدروس في المدرسة، كما أنهم تكلموا عن "نضال" ابن جيراننا..
أيضاً، شاهدت الكثير.. الملايين من الناس يسيرون في الشوارع ويحملون الأعلام، ويهزون قبضاتهم في الهواء لساعات طويلة من دون تعب، وكان التلفزيون يغني. أيضاً، كان بعضهم يتوقف ويكلمنا. أحياناً.. كانوا يتوقفون عن الكلام، كأنهم يتذكرون، وكان بعضهم يظهر وكأن أحداً يدله، وكانوا يتحدثون عن نضال كذلك..
لا أعرف بالضبط متى نمت. ربما لم أنم.. فطوال الوقت كنت أسمع صوت التلفزيون، كما رأيت أبي يحمل علماً، لكنه مر بسرعة ولم يتوقف ولم يكلمنا، ونظرت إلى أبي لأعرف كيف يشعر، فوجدته لايتفرج على التلفزيون. كان يحلق ذقنه. لماذا يتفرج.. فقد كان هناك ويعرف كل شيء. لا، أظن أنني نمت، وإلا كيف رأيت نضال وصرنا أصدقاء. الآن عرفت لماذا هو مدلل.. رغم أنه ليس شاطراً في المدرسة. لقد حكوا عنه في التلفزيون، بدأت أشعر بالغيرة بشكل لايطاق.. ولكن ما خفف عني هو صداقتي الجديدة مع نضال. لعبنا معاً بالكرة، وكان نضال في فريقي. وكنت أمرر له الكرات جميعها، فيضعها بطريقة رائعة ثم يركض ويعانقني، دون أن ينزعج من ملابسي المتسخة بالطين، ودون أن تتسخ ملابسه أيضاُ. نضال جميل.. وإلا ما كانوا ليتحدثوا عنه في التلفزيون. في تلك المرة.. فزنا فوزاً ساحقاً.. لدرجة أن فريق الحارة الأخرى انخرط في البكاء، وأوقفوا المباراة. ثم بدأ عراك طويل، فقد كانوا يريدون أن يضموا نضال إلى فريقهم، لكنه رفض وصمم على البقاء، في فريقي..
في اليوم التالي، لم يأت نضال إلى المدرسة، كان ما يزال راقداً في البيت بسبب خضوعه لعملية ثانية في قدمه اليسرى، بعدما فشلت العملية الأولى. وانتابني شعور أن نضال سيشفى هذه المرة، وسوف يتمكن من المشي مثلنا جميعاً، وسوف يصبح شاطراً ويأخذ الأولى في الصف، كما أنه سيثأر من جميع الذين يسخرون منه..
في ظهر ذلك اليوم لم أرَ نضال، فقد كنت أتفرج على تلفزيوننا. لم أره حتى يوم الجمعة. كنا نلعب كرة القدم قريباً من بيتهم، بكرة مصنوعة من الخِرَق البالية، وكان نضال كعادته واقفاً عند الباب ورجله في الجبصين، ويطبطب بكرته المبرقعة، الدولية..
ما من أحد فكر أن يطلب منه أن يعيرنا الكرة، كما أنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه..