سرديات لتزجية الوقت7 ما يطلبه الجمهور أبعد بكثير
ومر وقت آخر، وقت سمج بطبيعة الحال، وكانت ثمة برامج محببة إلينا فعلاً، برنامج «ما يطلبه المشاهدون» مثلاً.. الذي شاهدناه طوال تلك السنوات، من دون أن نغيِّر في عاداتنا على الإطلاق. ففي كل مرة.. كنا نكتم صوت التلفزيون عندما كانت المذيعة ماريا ديب (التي يلقبها جدي بالغزالة) تقدم إهداءات المشاهدين الأعزاء، ثم نرفع الصوت عندما تأتي الأغنيات، مقيمين ذلك الحلف التاريخي مع أم عمار، لطالما اعتقدنا أن كل ما يقوله المذيعون كذب في كذب..
بما فيها اهداءات المشاهدين الذين ثابروا لسنوات طويلة بطلب الأغنيات نفسها.. فحفظها الجمهور السوري عن ظهر قلب، لدرجة أنه عندما جاءنا أستاذ الفلسفة في درس الموسيقا (الذي كان طوال دراستي الإبتدائية والإعدادية درساً متحركاً.. حسب الأستاذ الذي يكلف بهذه الحصة بسبب عدم وجود أساتذة موسيقا)، ولم يرَ الأستاذ تلك المرة أن يكون الدرس درساً في القراءة الصامتة، أو التعبير، أو المراجعة، فطلب منا – نحن التلاميذ- أن نغني وأن نمارس حقنا الموسيقي (وبعد سنوات سمجة أيضاً عرفت أن لنا حقوقاً أخرى كفلها الدستور ولا أعرف ما هي بالضبط لأنني لم أرَ الدستور حتى الآن) الذي كفلته لنا المناهج التقدمية، فما كان من معظمنا إلا أن اشترك في غناء: هيْ لبيبة..لبيبة، يا ويل اللي مالو حبيبة! بشكل يمكن الاعتقاد معه بتلك الآثار المدهشة للتلفزيون السوري الذي استطاع أن ينقلنا خلال سنوات قليلة من الظلمات إلى النور ومناطق التعبير الحر بدون تأتأة، وهو نفسه التلفزيون الذي كان يصر ولأسباب فنية محضة (بالإضافة إلى تلبية مطالب المشاهدين) على بث الأغنية الوحيدة للمطرب (المحبوب) داود رضوان!
وسوف يمر وقت طويل (وسمج.. كالعادة) قبل أن أقرأ في إحدى الصحف العالمية خبراً مفاده أن الفنان داود رضوان صاحب الأغنية الوحيدة قد أصبح نقيباً للفنانين في محافظة السويداء، وقتها.. توفقت عن قراءة الخبر، وغنيت بدون شعور: هيْ لبيبة..لبيبة، يا ويل اللي مالو حبيبة!..
رغم الأداء اللافت، والحماس المثير، الذي تميز به المذيع عدنان بوظو، وخاصة في جملته الشهيرة: غووول لسورية! والتي غالباً ما كانت مجرد جملة افتتاحية يقوم بعدها المذيع (لأسباب تتعلق بالأخلاق الرياضية) بتعداد الإنجازات التي تنعم بها سورية الحديثة، لدرجة أنني كنت أشعر بالشفقة على الرياضيين الضيوف، الذين ولا بد.. لا يعرفون التلفزيون والمستشفيات والجسور والمدراس والملاعب..ألخ.
ولا يقلل من أهمية إنجازاتنا تلك.. أننا لم نكن قد رأينا الملاعب بعد، وأننا لم نمارس الألعاب الرياضية.. خاصة في المدراس. فخلال تلك الأزمنة لم تملك مدرستنا طابة! وكانت تملك صالات تزلج على الجليد، ومسابح، ونادياً لركوب الخيل، وصالات جمباز، وغيرها الكثير.. لكن أستاذ الرياضة (أو أستاذ التاريخ أو العربي أو الكيمياء) لم يكن يسمح لنا باللعب في تلك الصالات والملاعب ..لأنه كان يحب كرة القدم، ولأنه لا يوجد طابة في مدرستنا، فقد عمد أساتذة الرياضة إلى تقسيم صفنا إلى ثلاث مجموعات حسب عدد (الكعكات) التي تملكها المدرسة! وأجبرونا على اللعب بها لتطوير أخلاقنا الرياضية رغم كرهنا الشديد لتلك اللعبة التي كنا نبدو ونحن نمارسها كأطفال الروضات.
وهكذا.. حتى درس الرياضة كان مقيتاً، فكنا نهرب من الدروس، لنلعب الورق ونمارس التدخين، وفي أحيان كثيرة نمارس القمار نفسه..
وبسبب تلك العقدة التاريخية التي أورثتنا إيانا المدرسة بمنعنا من ارتياد صالات التزلج والسباحة والجماز وغيرها، صار برنامج «ما يطلبه الرياضيون» فرصة تعويضية لمتابعة تلك الألعاب، بما فيها كرة القدم بالطبع! ومع أن المذيع عدنان بوظو كان يبدأ برنامجه الرياضي بالأخبار المحلية، إلا أننا كنا نعتبر تلك الفقرة مجرد فقرة تحمية تقوم بإعدادنا وتحميسنا لمتابعة الأخبار الرياضية العالمية، إلا أنها كانت تفشل حتى بمجرد بعث الحماسة فينا، فنشأنا من دون أن يكون لنا أية طموحات رياضية، ودون أن نتمتع بأية أخلاق رياضية على الإطلاق..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.