الروائي خليل صويلح: صورتي مزيج من الألوان التي لطخها الآخرون على قماشة روحي...
يكتب خليل صويلح من زاوية الصياد، أو القناص، بمعنى أدق، يظلّ متحفزاً كذئب، ثم يختفي عدة أسابيع، ليعود بفريسة نصية تفضح أسرار كاره كلها، من استلهام بلاغة العصر القائمة على مزايا التكثيف، إلى التجوال في كتب التراث، ومحاورة الإبداعات الكبرى، وإطلاق عنان المشهدية البصرية، كل ذلك لتخليص الكتابة من أعباء لم تعد تخصها، فقد آن الأوان لظهور كتابة جديدة، تشبه حياة صاحبها.
بدأ خليل شاعراً في سياق ما عرف بجيل الثمانينات، وقد كتب الشعر «افتتاحيات» و«هكذا كان المشهد»، و«اقتفاء الأثر». في مجموعاته الشعرية شغلته اشتعالات ذاكرته البدوية، وانعكاساتها على مرآة المدينة التي ظلت سؤالاً غامضاً حتى دخل حقل الرواية، وبها (الرواية) استطاع إيجاد فضائه الشخصي بشكل أجلى وأوضح. كتب «ورّاق الحب»، و«بريد عاجل»، وآخر ما أنجز كان «دع عنك لومي».
* من يعرفك عن كثب يجد فيك شخصاً حاد الطباع، ميالاً إلى الصمت، كئيباً أغلب الأحيان... هل لهذا علاقة بالنشأة والطفولة؟
هناك من يقول إن الكآبة ذات منشأ ريفي، وربما كان هذا القول صحيحاً، بالنسبة لي على الأقل، كآبتي خصوصية، لها علاقة باندحار رغباتي وكثرة هزائمي. لست حاد الطبع، بالعكس، أعتقد أنه تم ترويضي على مراحل، وما تسميها حدة طبع، هي آخر قلاعي لمقاومة اليأس والخراب والخفة التي تحيط بنا من الجهات الأربع الخفة بمعناها الفيزيائي. لا شيء اليوم، يشجع على المزاج الرائق.
* رغم أنك قدمت في «اقتفاء الأثر» نفساً شعرياً مميزاً في الأداء والمناخ، هجرت الشعر نهائياً.. ألا يمكن أن يتجاور الشعر والرواية؟ أم أن مشاغلك الأخرى لا تسمح؟
هجرة الشعر ليست قراراً، واللجوء إلى الرواية ليس خياراً نهائياً. لكنني اكتشفت، منذ سنوات أنني كائن لا يحتمل المراوحة في المكان، ولدي رغبة جامحة بمناوشة سرد آخر، ينفتح على مناطق مجهولة، فكانت «ورّاق الحب» التي جاءت حصيلة تراكم نصوص مؤجلة، و غير مرئية، وبمعنى آخر لم يستوعبها الشعر، فلجأت إلى الكتابة الروائية.
* ما سر الإصرار على نص يذهب باتجاه الحياة الشخصية؟
أعتقد أن زمن العرافين والحكماء والمؤرخين انتهى، و نص اليوم يحتاج اشتغالات شخصية تمجد الهامشي والشخصي والعابر، وهذا ما حاولت أن أفعله في «وراق الحب» لكن الشخص هنا لا يعني ما هو سيروري صرف، إنما فحص الذات، ومعاينة الداخل كترجيع لصبوات شخصية محتدمة، وكمرآة للآخر.
صورتي مزيج من الألوان التي لطخها الآخرون على قماشة روحي، وكل ما أحاول كتابته هو تحليل هذه الكيمياء، و إرجاعها إلى خلاياها الأصلية.
* في روايتك «وراق الحب» و«بريد عاجل»، والثانية على وجه الخصوص، ألم يكن لاهتمامك الزائد بتقنيات فنيات السرد آثار على بناء الشخصيات والغوص فيها أكثر؟
طبيعة النص الذي أحاول تأسيسه على الورق تتطلب تقنيات سردية تشبه المناطق التي أعبر تخومها، لكن هذا الأمر لا يعني أن خريطة الرواية مؤطرة سلفاً، على العكس تماماً، فأنا أعتمد الارتجال في الدرجة الأولى، والإطاحة بالمقدس السردي، كمغامرة قابلة للنجاح أو الفشل.
أكتب في منطقة مجهولة، تتكشف شيئاً فشيئاً، وغالباً ما أبدأ من زاوية منفرجة، تحتمل تضاريس متعددة، لا أعلم تماماً إلى أين ستنتهي. أما بخصوص الشخصيات، فهي عنصر من العناصر الأخرى، وحضورها مشهدي وليس معرفياً، كما لو أن الأمر يجري في شريط سينمائي.
على الشخصية ألا تكون ورطة بالنسبة للروائي، فلتقل كلمتها وتمضي. ليس لدي أبطال وكومبارس، حتى الراوي يخضع لمحاكمة قاسية، وهذا النوع من السرد يشبهني، وتالياً فهو ليس مقصوداً بحد ذاته، إنه ينهض مع ما هو حكائي.
* لماذا تصر على تقديم الرواية ككوكتيل؟
ـ الرواية أكثر الفنون ديمقراطية، فهي تشبه وعاء الحاوي، بإمكانك أن تخرج من جيبك أرنباً أو بيتاً من الشعر الجاهلي، أو امرأة، أو لوحة، أو بطاقة بوستال موقعة من شخص غائب. والمركزية التي قامت عليها النصوص الروائية العربية، في معظمها، إنما تحاكي لحظة ديكتاتورية، تشبه أحوال الأنظمة العربية، وأرى أن تحطيم البنى هو المدماك الأول في الرواية التي أفهمها. وليس معقولاً أن أنظر إلى العالم من نافذة واحدة بوجود نوافذ أخرى على اللون والصوت والموسيقى. في الكمبيوتر تفتح الشاشة على روابط فرعية، فلماذا لا أستثمر هذه السرديات المتراكمة في كتابة نص روائي، يستحضر الموروث والراهن على شاشة واحدة؟
* يوماً بعد يوم، تزدهر الرواية العربية، ترى ما موقع الرواية السورية من هذا الازدهار؟
الرواية السورية إلى وقت قريب، كانت تشبه، إلى حد كبير، برنامج ما يطلبه المستمعون: حفنة أغان توزع على المستمعين في كل حلقة، عشرة أسماء يتداولها النقاد بحكم الحاجة وليس للحضور الإبداعي. ومع ذلك هناك من يقول أن الرواية السورية قطعت شوطاً طويلاً في حضورها. من يقرأ حنا مينه الآن؟ لا أحد. لكنه موجود بحكم العادة والكسل النقدي والريادة بالطبع.
رغم ذلك لدي إحساس مبهم أن طفرة روائية سورية سوف تظهر قريباً، فتحولات الألفية الجديدة لا بد وأن تفرز نصاً جديداً ومختلفاًً. حين يتخلص الروائي السوري من تصفية الحساب مع سلطة أو حقبة، سوف ينهض نص آخر. الروائي السوري موهوم بموقع المؤرخ، فيما تحتاج الرواية ما هو سوسيولوجي بحت.
* روايتك «دع عنك لومي» تشتبك مع الواقع من خلال استلهامها لحياة أشخاص معروفين على الساحة الثقافية السورية.. هل المثقف السوري على هذه الدرجة من الانحطاط؟
بخصوص مشاكلة الرواية شخصيات ثقافية حقيقية، كما تقول، لا أجد ذلك. فلدي شخصيات هامشية ترتدي أقنعة المثقف وحسب على مبدأ «الرزق يحب الخفية». لا شك أن الروائي يلتقط بؤرة من شخص أو عدة أشخاص، لكنه من طريق كيمياء السرد سيطلع بمزيج مما هو واقعي وآخر متخيّل، ولو كانت شخصياتي واقعية تماماً لكان الأمر أشبه بفضيحة لفرط الانتهاك.
«دع عنك لومي»: حال الثقافة السورية
■ سامي أبو عاصي
«عبلة.. أكتب لك من بلاد مظلمة، ودون أن يكون الجو ليلا» هذا ما ينهي به خليل صويلح روايته «دع عنك لومي » ولتحمل هذه الظلمة فإنه يذكرنا في بداية الرواية بقول أبي نواس: «رق الزجاجُ وراقت الخمرُ»، وخاصة «عرق البطة» هو السند الحقيقي لشلة المثقفين التي يختصر بها الكاتب حال الثقافة السورية المتردية من خلال بعض وجوهها الثقافية الملفقة التي تصلح لتكون مجازاً عاماُ للثقافة في البلد: «عماد معصراني، أنس عزيز، سمير شكري، ماهرغزال» شخصيات تتعايش معا دون أي بعد إنساني، والأحداث التي تدور كما يقول الراوي حسب المسح الطبوغرافي الذي يجريه سمير شكري « في المربع الممتد من ساحة يوسف العظمة إلى باب توما ،ومن الشيراتون إلى «الحصان الجامح» في جولات ليلية مجنونة، تتخللها معارك طاحنة، وراقصات روسيّات وقصائد منتحلة»
وما دفع الراوي للالتحاق «بشلة الثعالب» هو توصيف حالته من طبيب الأمراض العصبية أنه يعاني من قلق اكتئابي متوسط ولكن في الزيارة الأخيرة للطبيب يطمئنه أن سبب كآبته لا يدعو للقلق ،فهذه حالة اجتماعية «كلنا مرضى اكتئاب ،ولكن بدرجات متفاوتة»
دائماً كانت تطرأ شخصيات لتدخل مع شلة الثعالب «وتدفع ثمن موائدها وترحل» ومنهم أبوليلى «مغسل موتى» الذي دفن سعد الله ونوس والذي دفن حنا مينه فيقول له عماد معصراني ولكنه مسيحي فيجيب: « إنها أمنية لا أكثر، فبعد أن غسلت عبد الرحمن منيف، وشاهدت جنازته في التلفزيون أحسست بالفخر»
تلميحات ذكية عن الوضع الداخلي تظهر مقدار الضيق الذي يطبق على أنفاسنا، من خلال رواية مختلفة تتجول بين فضاء الريبورتاج الصحفي، والمشهدية السينمائية، لتفضح الخواء السوري، إلى درجة إطلاق الراوي للصراخ: «بلاد ذاهبة إلى حتفها وبشر مرضى بالخوف المزمن».