طارق عبدالواحد طارق عبدالواحد

سرديات لتزجية الوقت(2) شاشة تحكمها زهور و موسيقى كالحة

   عرف أولاد أقربائنا وجيراننا بأمر تلفزيوننا، فصار بيتنا مقصد الجميع، وانتقل التلفزيون من على الطربيزة الواطئة إلى ماكينة الخياطة. (وأفكر الآن.. كم كان ذلك الشيء العجيب يرفو قلوبنا الصغيرة، ويرتق عيوننا وصورنا الجائعة، وبالتأكيد بأفضل مما كانت تفعل أمي! لقد كان ما هو ممزق أكثر من ثيابنا، وما هو مهترئ أكثر من أعمارنا!..).

برامج الأطفال.. الجنة الصغيرة، بالأبيض والأسود.. فقط، التي ننتظرها على أحر من الجمر، والتي بسببها كرهت المدرسة.. التي جعلتني بدورها أكره: افتح يا سمسم، فرغم الحلقات الكثيرة التي شاهدتها من هذا البرنامج، إلا أنني لم أنجح (وحتى هذه اللحظة) في حفظ الترتيب الألفبائي لحروف الأبجدية. ولكنني مع ذلك، حزنت حزناً شديداً حين أخبرني أخي الأكبر أن (نعمان) هو شخص مثل بقية البشر، وأكثر من ذلك أن (ريمي) و (بيبيرو) ليسا حقيقييْن!..

شعرت بالإحباط، وفيما بعد قلت في نفسي.. وذا؟! أنا أحب أفلام الكرتون. وأبي أيضاً.. يحبها! مرة منعنا أبي من مشاهدة التلفزيون، وأمرنا بغضب شديد أن نذهب إلى الغرفة الأخرى، وأن نكتب وظائفنا. ومر الوقت ثقيلاً.. وأنا أنظر من النافذة وأتحدث إلى الأولاد المنتظرين عودة أبي عن قراره. شجعوني، قل له..قبل أن تنتهي البرامج. ودخلت إلى الغرفة الثانية.. فوجدته يتفرج على (ريمي)، كان متأثرأً إلى أبعد الحدود، وكانت عيناه مغرورقتين بالدموع. لم يغضب عندما رآني.. بل أشار لي بيده أن اجلس هنا. لقد أحببت أبي.. لكن ليس أكثر من أمي، فـ (ريمي) يحب أمه..

المشكلة التي لم نحسب حسابها، كانت.. الكهرباء!..

كانت الكهرباء تنقطع في أكثر الأوقات حرجاً، عندما يكون ريمي على وشك اللقاء بأمه، أو عندما يصل بيبيرو إلى مشارف كوليرادو، أو عندما يغضب سيلفر ويقرر معاقبة القرصان جورج..

كنا نشعر أن القدر يعاقبنا، فصرنا ندعو الله صراحة ألا يقطع الكهرباء أثناء برامج الأطفال، ولكنها ظلت تنقطع، ونحن ندعو وندعو. كنا نغلق التلفزيون خوفاً من أن يحترق، ونشعل اللمبة في النهار (ثمة ظلام كافر) ونراقبها بقلوب باكية، بعيون ذابلة وصمت متوسل.. دون فائدة!..

في تلك الأيام، كنا نشعر أننا ضحايا لعبة ما، وأن القدر ضدنا ويعاقبنا من خلال أجمل الأشياء التي نحبها. ومنذ تلك الأيام، بدأنا نتعلم كيف ندير اللعبة، بخداع السماء نفسها. صرنا نتظاهر باللامبلاة وعدم الاهتمام، وصرنا نجاهر بذلك: يا رب ما تجي الكهربا! هكذا بدأت لعبة شد الحبل بيننا وبين السماء، لعبة عض الأصابع، وكانت أصابعنا طرية، طرية أكثر من اللازم، ولم ننهزم، ولم نبكِِ.. إلا عندما نشعر بالظلم، عندما تأتي الكهرباء في اللحظة التي ينتهي البرنامج الذي ننظره، حتى أخي الكبير انفجر بالبكاء في إحدى المرات.. عندما جاءت الكهرباء مع شارة النهاية (في هذه الأيام يشاهد برامج الأطفال مع ابنيه، ولم يمنعهما مرة من ذلك!..).

لم تكن الكهرباء تعاقبنا وحدنا، بل كانت تفعل ذلك مع الكبار، مع أبي وضيوفنا، وكانوا يشتمونها بغضب، ويشتمون أبو الكهربا وأبو..

في بعض الأحيان كان التلفزيون نفسه ينقطع، وتظهر صورة وردة أو زهرة مع موسيقى كالحة، واكتشف الكبار الأسرار مع مرور الأيام، فصورة (الزنبقة) تعني أن الصورة ستنقطع لمدة عشر دقائق، وصورة (زهور الأقحوان) تعني أن الصورة ستعود بعد ربع ساعة. أما صورة (الوردة الشامية) فهذا يعني أن الصورة لن تعود أبداً.. وعندها يبدأ الضيوف بلملمة أشيائهم والانسحاب ساخطين، فالسهرة انتهت..وما من أمل!..