تفصيل من مسلسل «هذا العالم» تلاشي الدراما في اللهاث وراء صور ركيكة
رغبت كثيراً في تجريب كتابة السيناريو، لكنّ الرغبة وحدها لم تكن تكفي، فالوسط الفني ذو الطبيعة المافيوية لا يمكن اختراقه هكذا، فمهما دجّج المرء نفسه بالرغبات يبقى أعزل. لذا ظلّت المسألة تنقل من مربع تأجيل إلى آخر أبعد.
حين جاءت الفرصة الأولى كانت ذات إيقاع نوعيّ في الإغراء، فعلاوةً على تلبية إلحاح رغبويّ، بات مضنياً، هي خاصة في شكلها ومضمونها أيضاً، فالمشروع جديدٌ، كل الجدة، على الشاشة العربية، حيث يطمح إلى تقديم أفلام قصيرة برؤيا ونفسٍ سينمائي، ضمن إطار ما يعرف في العالم بـ«سينما التلفزيون».
بدأ مشوار هذا المشروع مع مجموعة أفلام نفذها بحساسية إخراجية مختلفة الفنان رامي حنا، عن نصوص من الأدب العالمي أعدها الشاعر محمد أبو لبن.
في تلك الدزّينة من الأفلام قدمت مادة في غاية الأهمية، تحمّس لها الجميع، حتى أنّ حاتم علي أدّى دوره في فيلم «زيارة خاطفة» دون أجرٍ، ولكن، كما يحدث عادةً، غرق العمل في وحل المال، وانسحب المموّل بدون إعلان إشعار آخر.
فيما بعد، تأسست شركة كاملة وهمّها الأول تنفيذ العمل بمجموعة من الكتاب والمخرجين، وقد ضاع وقتٌ كثير في البحث عن نصوص وأقلام جديدة، وكذلك عن مخرجين لم يجدوا فرصاً، وفي النهاية خرج عملٌ بعنوان «هذا العالم»، لا يشبه الطموح الذي بدأ متوثباً في البداية، وعلى وجه الخصوص مجموعة الأفلام التي حملت توقيع المخرج الشاب علاء عربي كاتبي.
الآن، بعد أن عُرِض العمل في رمضان الذي مضى ، بالإمكان الحديث عنه على ضوء المادة التي تناقلتها غير محطةٍ، سأتحدّث هنا وأنا جزء من ورشة الكتابة التي عانت الويلات مع أمزجة ينقصها التنسيق والتفاهم، بحيث يتصارع قبول الإنتاج الفني مع رفض الإخراج، والعكس صحيح، لأهداف تتعلّق بصراعات ضيقة، وغالباً ما تأتي النتائج ذات صبغة تنكيلية، وهو ما ظهر جلياً على الشاشة لمن شاهد وتابع.
معروفٌ للجميع خبر الخلاف الدائم بين الكاتب والمخرج، خاصةً عندما يتحول حبر الورق إلى صور، ودائماً ما يعلّل هذا الخلاف بضرورة تدخل وحسم الرؤيا الإخراجية لكونها صاحبة القول الأخير في نهاية المطاف، لكنّ الذي حدث في «هذا العالم» أنّ الكثير من النصوص، المكتوبة أفلام بالأساس، تحوّلت إلى لوحات، من ذلك النوع التلفزيوني الشائع، وهذا ما يتعارض جذرياً مع الفكرة العامة لـ«سينما التلفزيون» ومثال ذلك وافر، أسوق منه «النّسر»، «السارق»، «آخر الخط»، «أتوب عن حبّك»....الخ.
وسوى ذلك، وهنا الطامة الكبرى، أن، يصور المخرج النص على أساس قراءة قاصرة لمضمونه، كما فعل المخرج علاء عربي كاتبي مع نصيّ «وقد عدْتُ إليّ»، والذي صار اسمه «العودة»، فالفيلم الذي يتحدّث عن رجل نزيه يصل إلى التقاعد، ويدخل في حالة كآبة، يخرجه منها اقتراح زوجته بالذهاب إلى القرية، المنقطع عنها تماماً، لبيع أرضِ ورثها، ويفتح بعائدها مشروعين يتسلى ويسترزق منها، لنراه، في عودته، وقد أصاب الزمن تشويش وبات يلاحق الطفل الذي كانه، ففيما يتحلّى الكبير بكاريزما الهدوء والطيبة، يظهر الصغير شيطانا أزعر... وهكذا يستعيد وجهه الحقيقي، ويزيل عنه القناع الذي زوّرته به الحياة، فيقرر فعل العكس، حيث يعود وينهي شؤونه في المدينة ليعود إلى قريته مشاغباً حيوياًنا ولكن كبير السن.
في هذا الفيلم تحديداً ارتكب المخرج أخطاء، أقلّ ما توصف به بأنها فادحة. فالحدث الدرامي الأساسي المتجلّي في العودة إلى ذات، تمّت أفلمته بقالب رومانس بالٍ قوامه العودة إلى القرية، وشتان شتان بين هذا وذاك، ولم يكن ينقص إلا وأن توضع على الشارع أغنية علي الديك «معاود ع الضيعة يمي» حتى تكتمل الدراما، وتندحر الفكرة إلى الحضيض.
ولا تنتهي الفظائع عند هذا الحد، ففي نصّ «حدث عادي جداً» الذي سمّي على الشاشة «حدث عابر» ـ كتبه الزميل جهاد أسعد محمد، أضاف المخرج علاء نهاية أخرى، ليصبح الفيلم بنهايتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى، فالحكاية البسيطة التي ترصد هرب ولد من إصلاحية، واستعصاءه بنفسه على عمود كهرباء، من طراز «توتر عالي ـ خطر الموت»، ليلقي بصرخة احتجاج كبرى في وجه ضباط الإصلاحية ومشرفيها، من جهة، وفي رثاء مأساته العائلية، من جهة أخرى.. كل ذلك سيصبح محض كلام وثرثرة، في لقطات عامة، لا تفاصيل لشيء فيها، حتى للوجوه، وستحوّل مأساة عبد الله، مأساة الجميع، المكثفة والمضغوطة في عشرين دقيقة، إلى فيلم مضجرٍ، مع الإطاحة باللّعبة الأساسية في العنوان المحمولة على الدلالة الثنائية لكلمة حدث، هذه التي تدلّ على واقعة، كما تدلّ على معنى صغر السنّ، وفي هذه الأخيرة يصبح المضمون عميقاً بحيث يصبح عبد الله الأحداث الناشئين جميعاً.
غالباً ما كانت الأفكار تتلاشى مع اللهاث الحثيث وراء الصورة، علماً أنّ إبداع المخرجين الكبار قائم على خلق المعادلة الفنية بين الصورة والفكرة، الشكل والمضمون.
غير أنه من الواجب الإشادة بأفلام أخرى داخل هذا العمل، حققت الشروط الدرامية، وقدمت إضافتها إلى العمل كما فعلت كلّ من راما شرواني وعلياء خاشوق..
ما أردت قوله ههنا أنّ علاء ظلم نفسه وظلمنا معه.