فواز العاسمي فواز العاسمي

الخوارج .. واللقاحية العربية « ستفترق أمتي اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة »

لم يكن للحديث المذكور الأثر الكبير في نزعة التأويل لدى منظري أقطاب الصراع في العصور الإسلامية الأولى، وذلك لصالح امتطاء السياسي للنص الديني وتحولاته العظيمة في عقول الفقهاء والمنظرين، لكل فريق على حدة. بل الأجدر، البحث عن عوامل أكبر أثراً وأوسع فعلاً..وإذا كنا متفقين على أن النص الأدبي مثلاً، يمكن قراءته على عدة أوجه، فما بالنا بالنص الإلهي الذي هو إعجاز مفتوح على كل الاحتمالات.. 

فالخوارج لا يبتعدون كثيراً عن المنهج التلويني للنصوص في اجتهادهم للدفع بقضيتهم إلى الواجهة أمام فِرق استفادت بدورها من هذا الميكانيزم الذي انتهى في عصرٍ مبكرٍ باستقرار الفرق على أكثر من اثنتين وسبعين، لأن اندفاعة الثورة _ الإسلام تباطأت بأثر قانون تشظي الثورات إلى كانتونات، وإقطاعيات سياسية وطائفية، فمنذ سقوط بغداد على أيدي المغول توقف الاجتهاد، وتوقفنا عند حافة القرن السادس الهجري بجميع أطيافنا، نجتر ما تفتقت به العقول المدفوعة غالبا بوصولية سياسية، ولم ننتبه لتداخل السياسي بالديني، ولا حتى الاقتصادي بالاجتماعي _ الطبقي، فيما مضى .. كان لقبول عليّ التحكيم في موقعة صفين أكبر الأثر في ظهور الخوارج فقد برزت جماعة من جند عليّ ينكرون عليه قبول التحكيم بل أنهم خطّـؤوه، لأن التحكيم _ برأيهم_ يتضمن شك كل من الفريقين المتحاربين في أيهما المحق، و من هذا المنطلق حاربوا، وهم على ثقة أن الحق معهم، ولذا رأوا من الواجب متابعة القتال، حتى ينزل الله حُكمه، فيحقق النصر لأحد الفريقين على الآخر. وهنا لابد من تصحيح خطأ معرفي، وهو أن أغلب الباحثين في التاريخ الإسلامي يرد الحاكمية _ أي ؛ الحكم بما أنزل الله، في شؤون الناس وأمور دنياهم_ للخوارج، وذلك بعد سماعهم لكتاب التحكيم إذ كان يتلى من قبل الأشعث على القبائل في جيش عليّ وجيش معاوية..فأخذوا يصيحون « لا حكم إلا لله »،لكن الحقيقة أن معاوية وأتباعه هم من اقترحوا هذه الرؤية برفعهم المصاحف على أسنة الرماح طلباً للوقت حتى يضمدوا جراحهم، لأن كفة النصر كانت تميل لجهة جيش عليّ، وهنا لابد من الإشارة أن تحكيم القرآن قد أفضى بالضرورة إلى تحكيم الرجال . فالقرآن كما أوضح الإمام عليّ «إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق ».

سُمي الخوارج بهذا الاسم لخروجهم على عليّ ومحاربتهم إياه،وكانت لهم الأسماء التالية «الحرورية» لنزولهم حروراء، و« الشراة » لأنهم شروا أنفسهم من الله بالجهاد.و«المُـحَكّمة»لأنهم رفضوا التحكيم ،وقالوا لا حكم إلا لله، ومن مبادئهم السياسية،قولهم بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان في سنينه الأولى، وأقروا بصحة خلافة عليّ، ولكنهم أخذوا عليه قبوله التحكيم،وحكموا عليه وعلى كلٍّ من طلحة والزبير وعائشة والحكمين بالكفر. ولعل هذا الشطط بالأحكام مرده إلى نزعة لقاحية، فالقبلية كانت تفعل فعلها بصدورهم، فقد ذكر بعض المؤرخين ومنهم نيكلسون أن الخوارج من العرب البدو،حيث لم تستطع المدنية أن تؤثر في أخلاقهم وطباعهم البدوية. أما بروكلمان فيذهب إلى أنهم كانوا من تميم. أما عن اللقاحية فمرد ها أن الأسود بن عبد العزى قد قال مختصراً اعتراضه على كل المحاولات التي قامت في مكة، وما حولها، لتمليك زعيم على قبيلة، أو قبائل من العرب: « ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك»، وهذا ما جعل عدد مدعي النبوة يزداد قبيل البعثة النبوية وخلالها.  تتجلى النزعة القبلية في مبادئ الخوارج السياسية، بتململهم من الخضوع للسلطان ونرى عندهم معالم السخط على قريش والتذمر فوجدوا الفرصة سانحة في صحيفة التحكيم إذ أُنتزع منها لقب أمير المؤمنين، فأعلنوا انتزاع الخلافة من قريش، ورأوا أن تعقد الخلافة لأفضل أبناء الأمة عن طريق الاختيار المطلق، بل ذهبوا إلى أن عبداً حبشياً لا يقل أهلية واستعداداً، للخلافة عن سليل أعظم القبائل. واعتبروا حديث الرسول (ص) «الإمامة في قريش» حديثاً موضوعاً، ونعلم أن سعداً بن عبادة كان أول من عارض هذا الحديث، وهو أنصاري،إذ صمتت هذه المعارضة طيلة حكم الخلفاء الراشدين حتى مجيء الخوارج فأحيوها مجددا ...