محمد المطرود محمد المطرود

الرسائل الأولى.. رسائل لا تصل والرسائل لا أقدام لها ولا عجلات لتصل إلينا؟

 والرسائل ليست أطفالاً يحبون، نحملهم عن الأرض، نقبلهم، فتسيل علينا ريالاتهم، فرحين بها كجزء من الطهارة غير المتدنية، تنقصنا، ونحتاجها وكتابةُ الرسالة إلى الأصدقاء أو النساء، مشروع قصيدة مؤجلة، غالباً تحوّل تلك التي لا ترسل، تلك التي لن تصل، بتعديل في كيميائها، إلى نصٍّ أثريّ، كأن الشخص المعني، كان عنواناً لائذاً، تمّ العثور عليه في لعبة الكتابة.

رسالة لو أرسلت عرفت طريقها، تخبر الممالك والأزقة، ومؤداها المناطق المكتبة، خارجةً من الكلام على الكلام، من يقف بوجهها، لا بدّ يعرف وجهتها أما الغائب الذي سارت إليه، غائب حميم، لا تفضي بسرك الفضيحة إلا له وهو في أسوأ أحواله يسمعك.. لا بدّ أن يسمعك، وأنت تهجئ روحك أمامه، روحك المائلة إلى امتحانها الصعب، كما إلى زوالها.. هذا الغائب قريب، وخلق صندوق رسائلك المكشوف على اثنين فقط المرسل والمرسل إليه.

إن كنت شاعراً.. يلجأ العشاق الصغار إليك، فالشاعر من تعريفه يكون كاتباً جيداً وعاشقاً، وعليك أن تكتب إلى أنثاه. ربما لن تكتب حسناً، ولن تقنع بأنثى، لأن الشاعر يكتب في القصيدة، أما في الرسالة يكون صامتاً أكثر، ولا يتحايل.. أو لا تكون الأنثى من الفهم بحيث تدرك اللعبة.. لهذا تراه لا يرسل وتبقى الورقة طيَّ جيبه، من ثمّ يعيد الاعتبار للغة، ويعبئ أداة الكتابة بالفنية (الكذبة) ليرمم، ويغير التسميات، وفي نهاية الأمر يعثر على ما يشبهه.

 وضع شخصي.. وضعٌ يخصّ الرسالة

هل الرسائل إلى المرأة بأجنحة وتطير؟ هل الرسائل تكتب بسهولة إلى هذه الغاية؟ وهل تصل أسرع كأنها محفوفة بالملائكة؟؟ وما إن تمسك القلم من يده، حتى تسيل قطعان الكلمات وتتوه في منطقة البور من الروح، أسئلة كثيرة كنت أشتغل بها فيما مضى، ولم أفكر يوماً بالإجابة، كنتُ أنظر إلى ما يحدث على أنه من البدهيات، وأمرٌ مسلمٌ به ما لم أفصل بين الرسالة الموجهة إلى صديق، والرسالة الموجهة إلى الحبيبة، كلتاهما تطبخان في مخيلتي، ولكن ما إن كتبت ما فكرت به على الورق، أشعر بأن ما كتبته يضيق بي، فأضيق به، لأبعده بقرار قطعي إلى أجل غير مسمى، إلى سنوات، أكون قد هدأت أنظر فيما تبقى من أوراقي المصفرة، وأبيّض من جديد، لأصاب بحيل اللغة،  وإغراءاتها، محولاً النغمة الموجهة إلى شخص محدد بذاته، إلى مجموعة أشخاص مفترضين، لم يتعرّف أحد غيري إليهم وهم بالضرورة لا يعرفونني، أو يتحاشونني، فقد أكون وفقت في فك شيفرتهم، مما يجعلهم عرضة لدخولي عليهم في الوقت، وقتٌ أشاؤه أنا، وبذلك سيبدون ضعفاء أمامي وشعورهم بالنقص تجاهي، فيه استلاب لشخصيتهم، ونقطة تضاف إلى سجل غروري، إذا كنت ممن يصطادون الفرص ويحققون بعض أمجادهم في هزائم الآخرين، وإنْ كانت هزائمي لا تدخل في ثنائياتهم المتضادة.

في زمن مبكر عرفتُ الرسالة، على مقاعد الدراسة الابتدائية وكنا نتبادل الرسائل المقعد الأول مع المقعد الذي يليه، أو المقعد الذي يحاذي الجدار مع المقاعد الوسط، و نضبط من المعلم، لنقسم له على ألا نعاود الكرة مرة أخرى، وغالباً كانت رسائلنا لا تعنى بالحركات فالفتحة تصبح ألفاً، والكسرة ياءً، والضمة واواً (مثال: أنا معجبن بعيونكي) و(أنتظركي عندا باب المدرسة)، ودون الاستفادة من قصة وليد معماري في مقدمة الحب لأننا لم نكن قد قرأناها بعد، كنتُ وصديقي نتبادل الأدوار في الكتابة، كلٌّ منا يثق بقدرات الآخر، وكنا نركز على الخط أكثر من المعنى، ونشخط الورقة برسوم أكثر من الكلام، وبالجمل الجاهزة التفصيل، والتي استخدمها مليار عاشق وعاشقة، المسافة بيننا وبين (بثيناتنا) قصيرة وما من صناديق بريدية نودعها تماريننا الفاشلة، بالنسبة لي، كانت حمامي الزاجل، أخي الصغير العنيد، أغريه بالنقود،  والألبسة، وأشياء أخرى غير طلباته التعجيزية، أحمّله آمالي وأشواقي، على أن يعود بمثل ما حملته، وأنتظر أياماً، مرة يقول لم يرها، ومرة يقول إنه رآها ولم يستطع لوجود أهلها قريباً منها، ألجّ عليه ثانية فالمعاني لا رقابة عليها وهي تعويض أولي عن رغبات نكتمها لاسيما أننا بدأنا نتحسس أعضاءنا  ونميز بين ما يمكن إهماله، وبين أخرى أدمنا ملامستها فما عدنا قادرين على نسيانها، معللين أنفسنا: إن العضو الذي لا يعمل يضمر.. ومنها اليد، وأشياء أخرى.. لا رد يصل ويطول الانتظار، لماذا أشياء الأنثى غالية إلى هذه الدرجة نتوق دائماً إلى ما هو مخبوء فيها، توقُ يشبه كثيراً، معرفة مكمن الكنز، لكن الحراس كثر، وليس لك إلا أن تتحسر وتمرر لسانك على شفتيك علامة الرغبة، واللذة المقصودة إذ لا تحصل.. لا رد يصل وأنت تراها كل يوم فلماذا الإصرار الرسالة دليل مادي، يمكن أن تريه للآخر وتتباهى أمامهم بفتوحاتك العاطفية، لا أحد يكذبك، وهذه الورقة بأخطائها وحركاتها المحوّلة إلى حروف، بمثابة حجب ورقيات، تظل تقرأها المرة تلو الأخرى دون ملل، وفي كل مرة تقرأ ما بين السطور وما خلفها ولا رد يصل، ألحّ على أخي ثانية، فيطمئنني بأنها وصلت، ألحّ عليه ثانية، وألوي أذنه، فيعترف بأنه تخلص منها بطريقته الخاصة، مزقها، ودفنها في المزبلة القريبة من بيتنا، تثور ثائرتي، ويصل بي الأمر إلى عضه، هذا الرسول تنازل عن مهمته (كحمام زاجل) صار شرطياً يحمل مسدساً.. ولا أخفي بأني أتحاشى شره، وأرجو خيره.