محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث السهروردي المقتول

ربما كانت العودة إلى سيرة المتصوف والفيلسوف «شهاب الدين السهروردي» ضروريةً لكي نطرح السؤال التالي: ماهو المآل الذي آل إليه تاريخيا الإنتاج الحضاري والتعدد الفكري الإسلامي في زمن المواجهة مع العدو الخارجي؟

سنعود إذاً إلى القرن السادس الهجري وبالتحديد إلى عام 587هـ حيث كان صلاح الدين الأيوبي بعد أن وصل إلى قمة مجده بتحريره لمدينة القدس يخوض بيأس مرير آخر معارك حياته محاولا دون جدوى منع سقوط مدينة عكا بيد الحملة الصليبية الثالثة، في تلك السنة ترافقت تلك الهزيمة العسكرية بهزيمة حضارية كبيرة حيث خضع صلاح الدين لطلب فقهاء مدينة حلب وأمر ابنه الظاهر الايوبي والي المدينة بتنفيذ حكم الاعدام بالسهروردي.

لم يُحكم على السهروردي بالإعدام لأنه كان عميلاً للصليبيين مثلاً، أو لأنه قام بنشاط تخريبي ما في مؤخرة المعسكر الإسلامي، كان كل ذنبه هو أنه لم يكن متوافقاً مع الخط السلفي المتشدد الذي بدا يسود بقوة في الدولة الأيوبية، وانه خالف الاتجاه الذي فرضته المؤسسة الدينية والذي اعتبر أن الفلسفة والتصوف العرفاني هما بدعتان تجب محاربتهما بأي ثمن، فأسس واحداً من اهم التيارات الفكرية في التاريخ الإسلامي وهو فلسفة الاشراق التي جمعت وباسلوب مبدع وغير مسبوق عناصر متعددة من الفلسفة اليونانية والتصوف الإسلامي، وقد لاقت تلك الفلسفة انتشاراً ورواجاً كبيراً إلى درجة أن الملك الظاهر والي مدينة حلب قد أعجب بشدة بالسهروردي وفلسفته فقرَّبه إليه  مما أثار حفيظة فقهاء حلب الذين اتهموا السهروردي بالزندقة والكفر وبعثوا برسالة إلى صلاح الدين يطالبونه فيها بإقرار إعدام السهروردي.

كانت الحملات الصليبية بشكل عام كارثة كبيرة حلت بالعالم العربي والإسلامي ليس فقط على المستوى السياسي والعسكري بل على المستوى الحضاري أيضا، إذ سرَّعت تلك الحملات بشدة من عملية التدهور الفكري والحضاري التي بدأت مع حكم السلاجقة، حيث قامت الطبقة العسكرية التي سيطرت على الحكم في الدولة العربية الاسلامية بعقد تحالف عضوي مع المؤسسة الدينية السلفية وفرضت بقوة السيف فكرا منغلقا احاديا قضى على التنوع والغنى الحضاري الكبير الذي عرفته الحضارة الاسلامية في العصور السابقة بدعوى مواجهة الخطر الخارجي.

هكذا ترافقت الهزائم السياسية بهزائم فكرية كبرى، فترافق مقتل السهروردي مع سقوط مدينة عكا ومن ثم تقدم قوات «ريتشارد قلب الأسد» على الساحل الفلسطيني، مما اضطر صلاح الدين إلى عقد صلح «الرملة» معه معترفاً باحتلاله لمدينة عكا، وبعد العديد من السنوات سلم خلفاء صلاح الدين مدينة القدس إلى الصليبيين مرة اخرى دون قتال ، قبل أن يأتي الاحتلال المغولي ليدمر آخر ما تبقى من المعالم الحضارية للمنطقة، وهكذا لم تكن السياسة التي يمكن تسميتها بـ«تطهير الجبهة الداخلية فكرياً لضرورات المواجهة» ناجعة على المدى الطويل سوى بتفريغ المنطقة معرفياً وحضارياً، بدورهم قام الصليبيون والمغول من بعدهم بدور كبير وواع في عمليات التفريغ تلك، فلم يكن من المصادفة مثلا أن الصليبيين قد دشنوا احتلالهم لمدينة طرابلس باحراق المكتبة الضخمة لحاكمها ابن عمار، في حين كانت من أولى خطوات المغول بعد احتلالهم لبغداد هو رمي محتويات مكتباتها في نهر دجلة، وهكذا حرمت المنطقة من أساس معرفي قوي يمكِّنها من إنشاء مقاومة واعية وبعيدة النظر حيث اقتصر فعلها المقاوم في أغلب الاحيان على ردات الفعل الآنية. 

وبالعودة إلى السهروردي يمكننا القول إن ذلك المتصوف المقتول الذي قال في يوم من الايام: «لا بد ان أملك الأرض» قد أسس لمملكة فكرية شاسعة كان من الصعب وأدها تماما، فاستمرت بعده ووصلت إلى ذروتها مع ابن عربي فيما بعد، أما ضريبة الدم التي ألزم بها فقد دفعها عن طيب خاطر بعد ان قال كلمته وأوصل رسالته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 02 تشرين2/نوفمبر 2016 08:26