عبد الوهاب عزاوي عبد الوهاب عزاوي

المقهى.. جمال بعليّ وسط جنون الحياة

  لعل منتزه مقسم دمر من الأماكن القليلة نسبياً التي حافظت على خصوصيتها في دمشق كبقعةٍ ملونة وسط لوحةٍ رمادية قاتمة، مقهىً شعبيٌ بسيطٌ يقدّم شاياً وقهوةً ونوعاً واحداً من الأراكيل، ولكنه يقدم جمالاً لا ينتهي في فضائه الرحب ونهره وشجره.

يبرز المقهى كبرزخٍ بين عالمين، وراءه بيوت سكنٍ عشوائيٍ متهالكةٌ ينهكها الفقر يظهر منها أطفالٌ يلعبون، وفي الذاكرة طفلةٌ بثوبٍ أحمر أمام درجٍ مكسر الدرجات والضوء ينزل من اليسار، إنها لوحةٌ بعليةٌ حرةٌ كلحظة هدنة في هذا الزحام، وفي المقابل أمام المقهى بناياتٌ فارهة تنتصب كدماملَ فوق قاسيون، كثيراً ما تخيّلت الجدار الاستنادي فيها على أنه سجن بشبابيك ضيقة.

النهر في الأسفل وحده عالمٌ مدهشٌ فيه الكثير مما يصعب توقعه، أكياسٌ من مختلف الأشكال، علب بلاستيك،حقيبة مدرسية، أوراق شجرٍ من مختلف الأنواع، لعبة تشبه الأورغ مغمورة، أعقاب سجائر، شريط كاسيت مكسور وخيط التسجيل يرف فوق يقايا الماء، دمى، بقايا شيبس، وأحياناً تُفاجأ بأشياءٍ عصية على التوقع مثل كرسيٍ ضخمٍ وقديمٍ، فيدهمك سؤالٌ : أيعقل لهذا النهر الواهن أن يحمله ..؟! وفعلاً سألت هاني (وقد أمسى صديقاً) عن الأمر فأخبرني أنهم يحولون مجرى النهر أحياناً لهذا الفرع، فيجلب معه الكثير بانتظار أن يأتي عمال البلدية لتنظيف النهر ليلاً، قد يكون الجواب مقنعاً، ولكنك إن كنت تملك وقتاً كافياً وخيالاً رعوياً، فلك أن ترسم أو تتخيل عدة حكايا لوصول مثل هذا الشيء إلى نهرٍ بالكاد يتنفس، وأحياناً يشطح خيالي وأنا أتأمله فأحلم بسمكةٍ تسبح في هذا المجرى الضحل، زعانفها خارج الماء وعيناها على السطح، سمكةٍ قادرةٍ على خرق جدار الحياة والسباحة في الحلم، أنظر للكأس أمامي فأحلم بشفاهٍ عديدةٍ حمراءَ مشوهةٍ وأخرى رقيقةٍ كخطين في الذاكرة، وأحلم بآلاف الكلمات تملأ هذا الفضاء، همسٍ خافتٍ يغمر الروح.

  عالم الزوار القلائل في المقهى عالمٌ مدهشٌ، فمثلاً قد تجد رجلاً ما يحدث نفسه طوال الوقت مما يوحي طبياً بوجود أهلاس سمعية أو فصام، وهو ينتظر شخصاً ما لم يأت أبداً، ومن الغريب تواجد مجموعة من الزوار بشكلٍ منتظم منظرهم يوحي بأنهم مثليون جنسياً، ومن الحوادث التي أثرت فيّ امرأةٌ مسنة انتظرت ساعاتٍ على طاولةٍ قريبةٍ من الباب ولم تشرب شايها وبعد أن قدم ولدها وقبلها على عجلٍ وأخذها معه وقتها فقط أحسست أن الشاي قد برد فعلاً..، وكما تقول حبيبتي «نحسّ أن زوار هذا المقهى مجموعةٌ ممن رفضهم المجتمع أو رفضوه، هربوا أو هُرّبوا..».

 بعد تعلقنا بالمكان بدأ عدد من الأصدقاء بالتوارد عليه، وكثيراً ما اشتكوا في البداية من رائحة النهر، ليأتي ردي الطبي الحاسم مباشرةً بأن المستقبلات الشمية تعتاد على تراكيزَ ثابتةٍ من الرائحة خلال دقيقة، فلا تعود تتنبه وبالتالي تزول الرائحة حتى تتغير التراكيز مرة أخرى، والوقت والجمال الرعوي كفيلان بإلهائهم حتى لو بقيت رائحة النهر الذي تغزل به عشرات الشعراء وغنّت له فيروز آسنةً وواخزةً، إنها رائحة دمشق المريضة كامرأةٍ ولدت للتو كتلاً أسمنتيةً مشوهةً ولصوصاً يستثمرون لحمها بوحشيةٍ دون أي ذوقٍ أو أخلاق.

  أخبرني هاني أن أصحاب المكان يريدون بيعه، لكنهم رفضوا العروض التي أتتهم رغم المبالغ الكبيرة فيها، أعتقد أن الوفاء لذاكرتهم هو السبب أكثر من الطمع بمبلغٍ أكبر، ولاحقاً أخبرني أن مقاهي مجاورة لهم قد بيعت لكبار المتعهدين وسيحل مكانها بكل ما تحويه من أشجار ومزروعات مشروعات أسمنتية، وأخشى أن يأتي زمن يتمكن فيه أحد كبار رجال الأعمال المحدثين الذين يسرقون البلد من شراء هذا المكان النادر ببساطته وإرثه، فيحوله إلى برجٍ سكني أو موقفٍ للسيارات الفخمة أو فسحةٍ أخرى من الكذب والتشويه.