تراث غربة أبي حنيفة

ينسب الكثيرون أنفسهم إلى الفقه الحنفي ومؤسسه أبي حنيفة النعمان، إلا أن الصورة الحقيقية لهذا الفقيه المجتهد قد ضاعت وسط أكداس من التراث الفقهي اللاحق الذي حنط ما أنجزه أبو حنيفة في صيغ جامدة لاحياة فيها، في فترة حرم فيها الاجتهاد وهو الأساس الذي قام عليه مشروع ابي حنيفة الفقهي.

لا تنبع فرادة أبي حنيفة مما أحدثه من أحكام فقهية مازلنا نجترها كما هي منذ أكثر من ألف عام، بل تنبع من الثورة التي أحدثها في تاريخ التشريع الإسلامي بعد فترة قصيرة نسبياً من نشأته لم تتجاوز المئة والخمسين عاما. فقد استطاع أبو حنيفة إخراج العقل الفقهي من تبعيته التامة للنص الديني وإيصاله إلى فضاء الاجتهاد القائم على المنطق العقلي، من خلال تأسيسه في المباحث الفقهية لاستعمال القياس (الاستنباط العقلي لأحكام فقهية في قضايا لم يرد فيها نص، من خلال قياسها بأحكام قضايا ورد فيها نص تشترك معها بالعلة) والاستحسان (تجاوز القياس والأخذ بما هو أفضل للناس)، وهكذا تجاوز أبو حنيفة منطق الفقهاء التقليدي في محاولتهم حشر حياة الإنسان ونشاطاته ضمن الحدود الضيقة للنص الديني، إلى توسيع النصوص وجعلها أكثر مرونة لتصبح متوافقة مع حياة الإنسان بكل تطوراتها، بل وتجاوز النصوص عند الضرورة والأخذ فقط بالرأي العقلاني الذي يتجاوب مع حاجات الناس ومصالحهم.

لقد عاش أبو حنيفة في مدينة الكوفة في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، وكانت الكوفة في ذلك العصر تضج بالنشاط الاقتصادي والتيارات الفكرية والسياسية المتصارعة، فجاء فقه أبي حنيفة ليجعل التشريع الإسلامي متجاوباً مع هذه البيئة الغنية والحية، ومن هنا أتت فتاواه الفقهية الجريئة في الكثير من القضايا كجواز تولي المرأة للقضاء، وإحلاله شرب النبيذ ضمن حدود معينة، وتعديله لأحكام الخمس رغم ورود نص قرآني واضح وقطعي فيها: (الخمس ضريبة تفرض على غنائم الحرب والمعادن والأحجار الكريمة، وقد أسقط أبو حنيفة حصة أقرباء النبي منها والتي تنص عليها الآية القرآنية)... الخ مما يجده المتعمق في احكام الفقه الحنفي.

ولم يكن أبو حنيفة من فقهاء السلاطين الذين يعج بهم التاريخ الإسلامي، وبالتأكيد لا شبه بينه وبين فقهاء الإعلام النفطي المعاصرين، فقد كان سلوكه قائماً على مقاطعة السلطات الأموية والعباسية الظالمة، ودعم كل الثورات التي خرجت ضدهم وطالبت بالحرية والمساواة كثورتي «زيد بن علي» و«إبراهيم بن عبد الله الحسني» رغم اختلافه معهما بالمذهب، وقد رفض أن يستلم أي منصب رسمي في الدولة رغم كل الضعط الذي تعرض له من الخلفاء، وهذا كان أحد أهم الأسباب المباشرة التي أدت إلى مقتله في سجون أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس. 

إن غربة أبي حنيفة في عصرنا بعد أن أصبح اسمه من المقدسات لهي من أعجب مفارقات التاريخ، فهذا الفقيه الذي تعرض لكل أنواع الاتهامات والتشهيرات في عصره، وقتل على يد أرباب الدولة، يبدو أكثر إضطهادا وغربة في أيامنا هذه، فالأحكام المتميزة التي وضعها للمجتمع الإسلامي في القرن الثاني الهجري جرى تأبيدها والتعامل معها على مبدأ أنها صالحة «لكل زمان ومكان»، وتم ذلك على حساب نسيان منهجيته وروح فكره التجديدي على يد من يدعون أنهم تلامذته وأتباعه، لتصبح «الحنفية» إحدى تجليات العقل الديني المتزمت بالضد من مساعي مؤسسها ورغبته.    

■ محمد سامي الكيال

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 21:47