سجادة الشرق العظيم
لم يكن سهلاً ذاك الشعور بأن كل جديد وحديث واجهته يومياً في المغترب، ذكرني دوماً بهذا الثقل الكبير الذي أحمله على كتفي الإثنين. إنه ثقل عشرة آلاف سنة خلت من الحضارة المتواصلة على أرض الشرق. لأكتشف لاحقاً أن ما درسناه في كتب التاريخ لم يكن إلا قطعاً متناثرة من تاريخ منطقة صنعت تاريخ حضارة الإنسان.
كان هناك على الدوام فجوات في المعرفة بالنسبة لي ولأبناء جيلي عن التواصل الحضاري والثقافي الذي يجمع وسط وغرب آسيا في وحدة تبدو معها الحدود الجغرافية عبارة عن لعبة كَرّ وفَرَ غير ذات عمق.
لكن هناك فكرة كانت تدور على الدوام في رأسي، إذا أردنا أن نقول عن شيء ما بأنه الجامع لثقافات المنطقة فما هو الشكل المعبر يا ترى؟
رموز أرمنية
إلى أن لمع في ذهني بصيص النور في أحد زيارات العمل الدورية إلى تدمر حيث كنت أمر عادة بأحد باعة المقتنيات القديمة وأهمها لديه السجاد، وبدأت أسأله عن الفرق بين أنواع السجاد الأفغاني والعجمي (والمقصود به هنا الفارسي) والبدوي. وبدأت عملية بحث مكثفة عن أنماط السجاد ورسوماته وأصولها، لأصل إلى نتيجة مفادها أن أصل السجاد بكافة أنماطه هو من أرمينيا، وانتشر في أرجاء وسط وغرب أسيا بناء على تمدد وتقلص الوجود الأرمني في المنطقة، ورغم وجود أنماط محلية مميزة لكل منطقة ولكل مجموعة (حيث يمكن تمييز السجاد والبسط الفلاحية والبدوية من أنماط الرسوم النباتية المميزة للسجاد الفلاحي، والرسوم الحيوانية المميزة للبساط البدوي) إلا أن الأحرف الأرمنية التي ترمز إلى الله والمسيح ما زالت تتردد في كل بساط بدوي عبر بلدان المنطقة كلها.
وبينما كانت قيمة السجاد والبساط الشرقي تدور وتدور وأنا أتأملها في أحد باصات السكانيا (التي كانت رائجة كوسيلة نقل شعبية لمدة طويلة في النصف الثاني من القرن الماضي) دارت مع رسوماتها رحى أغنية لم أستطع تمييز كلماتها للوهلة الأولى، لكن كلماتها لم تكن هي ما يشغل بالي، بل كانت موسيقاها، هل هي فارسية، أم تركية أو أرمنية أم كردية أم عربية، لم يكن من السهل تمييزها للوهلة الأولى، قبل معرفة لغة الكلمات (الآشورية)، عدت لأتساءل مع معرفتي بأن أول التدوين الموسيقي كان في أوغاريت، هل هناك موسيقا مميزة خالصة من التأثر لكل بلد من بلدان المنطقة، نعم هناك موسيقى مميزة لكل منطقة لكنها ليست خارج نطاق التآثر بالتأكيد فمشتركاتها عميقة وملموسة.
الحركة المتأرجحة للحدود
نعود ههنا إلى الحركة المتأرجحة للحدود السياسية التي لم تكن يوماً ثابته في تاريخ المنطقة، وإلى التغيرات السكانية التي جعلت من الصفاء العرقي أسطورة لا يمكن وجودها على أرض الواقع.
منذ الإمبراطورية الأكادية التي تعتبر أول امبراطورية في التاريخ في منتصف القرن الرابع والعشرين كان تاريخ المنطقة مداً وجزراُ تآثراً مستمراً يصل إلى حد الاندماج تارة كما في ذروة العصر الإسلامي. لكن التفاعل البشري الطوعي والقسري (الناجم عن التهجير والإبادة كما في حالات الشركس والأرمن والسريان والأكراد....) لم يتوقف لحظة واحدة.
شكلت المساحة الممتدة من قزوين إلى المتوسط فضاءً واحداً، بالمعنى الاقتصادي والسياسي والعسكري حتى أوائل القرن العشرين. وقد أخذ هذا الفضاء الموضوعي سابقاً شكل امبراطوريات ودول شاسعة ظهرت في هذه المنطقة تاريخياً (محلية كانت أم غير محلية، كالإمبراطورية المقدونية أيام الاسكندر) والتي كانت سمات علاقات شعوبها مع بعضها الانفتاح والتماهي جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، لكن المظاهر الثقافية لوحدة شعوب الشرق كانت هي ما بقي بعد انفصام عرى هذه الدول سياسياً.
إن ما يجمع هذه الشعوب هو أكثر بكثير مما يفرقها من حيث التكوين النفسي والقيمي والاجتماعي والعاطفي ذاك المبني على ثقافة قواسمها مشتركة كبيرة.
قوس توترهم
ولأن مخططات الغرب الاستعماري كانت هي الأبرز منذ بداية القرن العشرين، تلك المتمثلة في تقسيمات الدول الحالية إلى حد كبير، فإن تاريخ النضال المشترك في وجه الاستعمار، بشكليه القديم والجديد، والإمبريالية، ولاسيما الأمريكية ومشاريع هيمنتها، يثبت أن وحدة هذه الشعوب ما زالت عميقة الجذور.
قدم مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر بين عامي 1977-1981 زبيغنيو بريجنسكي رؤيته عما أسماه قوس التوتر في المنطقة الممتدة من أفغانستان مروراً بدول آسيا الوسطى، مروراً بأوكرانيا فتركيا، وصولاً إلى المشرق العربي، فوادي النيل وصولاً إلى باب المندب، شاملاً سبعاً وثلاثين دولة. إِذْ قال حرفياً: «إن ما يسهل سيطرتنا على هذا القوس عامل مهم جداً، هو أن دول هذا القوس تتكون شعوبها من انتماءات دينية ومذهبية وطائفية متنوعة، وهذا ما يجب أن نشتغل عليه ونركز عليه»، إذ أكد على ضرورة تشكيل دول وحيدة الطائفية والقومية والدين في منطقة الشرق العظيم، التي تعني عدداً من فئة المئات في نواتج التقسيم الذي يبغيه الأميركي، إلا أنه لم يدر يوماً أن سر قوة هذه الشعوب هو في تنوعها الذي يجعلها خليطاً لا يمكن فكه وفصله إلى مكونات أولية لم تعد موجودة وربما لم تكن موجودة أصلاً.
من تموز إلى الخضر
إن مشروع اتحاد شعوب الشرق العظيم الآن هو الرد التاريخي المضاد من شعوب المنطقة على مشاريع التفتيت والفوضى الخلاقة ومقولات صراع الحضارات الأمريكية، الذي يتمثل في غَذّ السير باتجاه وحدة مصالح شعوب الشرق العظيم واتحادها، التي تسمح بالتوجه إليها موضوعياً تحولات ميزان القوى الدولي الجديد، إذ يقوم على التفاهم الطوعي بين شعوب المنطقة جميعها، وإن المفصل التاريخي لهذا التحول الاستراتيجي سيجري حين تكون الإمبريالية في أضعف لحظاتها وغير قادرة على تمرير مخططاتها كالسابق وقد أصبحت هذه اللحظة اليوم أقرب مما كانت عليه في أي وقت مضى.
إن الخصب الذي قامت عليه حضارات الشرق القديم استمر منذ تموز الرافدي إلى بعل وأدونيس السوريين حتى نوروز الأكراد و إيران وأفغانستان وباكستان وطاجكستان ، وصولاً إلى مار جرجس الخضر، يستمر في شعوب الشرق الخصيبة بثقافاتها المتنوعة المتكاملة المتشابهة.