في آليات التلقي والتعليب.. الدراما التلفزيونية وإعادة إنتاج القيم الاجتماعية
لا يمكننا أن نحمِّل الدراما التلفزيونية أكثر مما تحمل، فهذا النمط من العمل الفني لا يمكن له مهما بلغ إبداع القائمين عليه، واتساع رؤاهم، أن يقدم تعبيراً فنياً يحمل عناصر النضج والتكامل التي قد نجدها في غيره من أشكال التعبير الفني، كالمسرح والسينما، وذلك بسبب شروط وجوده بالذات، فالدراما التلفزيونية تقدم أصلاً لمتلقٍّ خامل، يبحث أساساً عن التسلية وتمضية الوقت، و هو مستهلك سلبي بطبعه، ينفر من الأعمال التي تتطلب التفاعل والمشاركة وبذل الجهد من المتلقي لتمثل صورة العمل الفني و صياغة مغزاه.
هذا فضلاً عن الشروط الإنتاجية التي تحكم صناعة العمل الدرامي التلفزيوني، فالدراما التلفزيونية هي عمل تجاري ربحي أساساً، لا يحتمل المغامرة الإنتاجية لحساب تقديم مضمون فني راق، لأن التلفزيون لا ذاكرة فنية له (مهما بثوا من برامج عن «ذاكرة التلفزيون»)، وبالتالي لا يمكن للقائمين عليه أن يعزُّوا أنفسهم في حال خسارتهم بأنهم صنعوا عملاً خالداً في الذاكرة الفنية. بسبب كل هذه العوامل تبقى غاية العمل التلفزيوني تدور في إطار «الترفيه»، مهما حاول بعض صانعيه، من ذوي الطموح الفني المجهض، أن يضفوا عليه صوراً ومضامين فنية متميزة، وهي محاولات محدودة أساساً.
جاء انتشار الدراما التلفزيونية وتسيّدها على الأفق الفني للمواطن السوري، في زمن تراجعت فيه كل أشكال التعبير الفني الأخرى، لتملأ الفراغ الناشئ عن هذا التراجع، ولتمتص عدداً كبيراً من الكوادر الفنية التي كانت تعمل في تلك الأشكال، وهكذا تدهور نمط العمل الفني الذي يتم تلقيه ضمن إطار لقاء اجتماعي، يتم التوجه إليه بإرادة وقصد كاملين من المتلقين، ليحل محله نمط العمل الفني الذي يتسلل دون استئذان إلى بيوت المتلقين المبعثرين والسلبيين، والذين لا يقومون بعملية «اختيار» لما سيشاهدونه، بقدر ما يقومون بعملية «مفاضلة» بين مختلف الأعمال المفروضة عليهم. هذا النمط من التلقي جعل الدراما التلفزيونية محاصرةً بالكثير من الخطوط الحمراء، فما دامت الدراما التلفزيونية لها كل تلك القدرة على التسلل والتأثير والانتشار، فعلى القائمين على صناعتها أن يراعوا إلى أقصى حد تقديم أعمال «منقاة» و«مطهرة» من كل ما من شأنه تعكير ركود وسلبية جو المتلقين، بل عليهم تكريسه وإعادة إنتاجه بكل سلبيته وركوده، هكذا يمكننا أن نرى أن الدراما التلفزيونية هي أكثر أشكال التعبير الفني مناسبةً ل«السلطة»، السلطة بمعناها الأعم (السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي والديني...الخ)، التي تتخلل كل مناحي وتفاصيل الوجود الاجتماعي، مهتمةً بإنتاج الوعي والقيم الاجتماعية، وإعادة إنتاجها، والرقابة الدائمة على الخاضعين لها، لتصنع في المحصلة أجساداً ونفوساً طيعة لمتطلباتها.
الدراما التلفزيونية إذاً محكومة حتماً بتقديم ثقافة استهلاكية ومحافظة، وانتشار ثقافة التلفزيون هذه هو انتصار للقيم المحافظة والاستهلاكية، ولذلك فليس من المستغرب على الإطلاق أن تقوم الدراما التلفزيونية بتقديم نماذج معلبة وبلاستيكية للحياة، وأن تفرغ القضايا الحياتية من مضامينها الحقيقية، مقدمةً معالجات سطحية لها، ومتجنبةً الخوض في إية قضية شائكة أو إشكالية، أو تسطيح هذا النوع من القضايا لدى تناولها، وحرمانها من دلالتها العميقة، لترسم لنا في النتيجة صورة شبحية للمجتمع، تشبهه من حيث السمت العام، ولكنها فاقدةُ لنبض وحرارة الحياة التي تسري فيه، وهذه الصورة الشبحية بعرف «السلطة» هي التي يجب أن تبقى لدى المتلقي على مستوى الوعي، وهي التي يجب أن تكون أساساً في صياغة قيمه ونظرته للواقع، لكي تبقى قضايا العمق دائماً ضمن نطاق حرمة وقدسية التابو، ولتقبع في مجال المسكوت عنه.
المسألة إذاً ليست مجرد مسألة خيارات يتخذها كاتب العمل التلفزيوني أو مخرجه، يفرضها مستواهم الفني، أو خياراتهم الفكرية، رغم أهمية هذه العوامل، فالثقافة الاستهلاكية والمحافظة التي تقدمها الدراما التلفزيونية تنبثق من بنية الإنتاج التلفزيوني بالذات، وهي البنية التي تفرض نسقها على كل العاملين في مجاله، وتحدد موقعهم ودورهم ووظيفتهم ضمن إطارها، وبالتالي لايمكن لأي عمل تلفزيوني أن يكسر هذه الدائرة، مهما حاول القائمون عليه التحايل على الرقابات، وكسر الحواجز التي تفرضها آليات العمل في التلفزيون.
إلا أن زمن التحايل على آليات العمل التلفزيوني قد ولى على مايبدو، فمع تقدم القنوات الفضائية، وازدياد ضخ الأموال في إنتاج وتوزيع الدراما التلفزيونية، تماهى العديد من العاملين في الدراما السورية مع مايبدو انه مشروع إقليمي، تفوح منه رائحة النفط، لتأسيس خطاب ثقافي تلفزيوني على المستوى العربي، يسيطر على الوعي الاجتماعي للناطقين بالعربية، ويعمم ثقافة ونمط حياة البدوي المستهلك، ويبدو أن هذا المشروع قد نجح تماماً في السيطرة على الأفق الفكري المعاصر، في ظل تأخر تبلور خطاب الثقافة المضادة والبديلة، التي لم تنجح حتى الآن في إيجاد لغتها، وصياغة مشروعها.