في ذكرى هادي العلوي: عندما يضاء التراث... بقلم شيخ المؤرخين
سنوات عديدة باتت تفصلنا عن العام 1998 عندما أغمض «أبو الحسن» عينيه للمرة الأخيرة في ضواحي مدينة دمشق، ورغم كل ما قيل ونشر في تلك الأيام الخريفية الكئيبة تأبيناً للراحل الكبير، فإن أحداً لم يستطع التعبير عن ذلك الشعور الخاص باليتم الذي أحس به الآلاف من قرائه وتلاميذه، فالعشرات من المؤرخين والباحثين التراثيين الشباب، ومهما اختلفت رؤاهم ومناهجهم عن الدرب الذي اختطه الراحل، كانوا يحلونه في مكانة الأب، بعد أن تربوا (بالمعنى الحرفي للكلمة) على أعماله ومؤلفاته، فهو الذي أضاء لهم خفايا ذلك الميدان الصعب والشائك الذي يدعى التراث، وفكك لهم رموزه الصعبة، وجعله ميداناً ممكناً للبحث والدراسة المتحررة من قيود المقدس، والأهم من ذلك فهو من علمهم كيف يقرؤون تراثهم بتعاطف المنتمي إليه (لا بتحيزه) دون أن يعيقهم هذا عن طرح أصعب الأسئلة عليه، وعن خلخلة كل المعايير والمفاهيم والأطر التقليدية التي تسود عملية دراسته واستيعابه.... لكل هذه الأسباب وبفضل الكاريزما الشخصية العالية التي تمتع بها، والتي تجلت أساساً في الأخلاقيات الرفيعة التي تحلى بها، والشفافية الإنسانية العالية التي طبعت سلوكه وأعماله، يمكننا أن نفهم المكانة الكبيرة التي احتلها هادي العلوي في وجدان معاصريه.
مع شيخنا أبي الحسن (وليسمح لي القارئ باستخدام هذا التعبير) لا يمكن لأي كاتب أن يتجنب المرور بمثل هذه المقدمات العاطفية والوجدانية، مهما أراد أن تلتزم دراسته بالمعايير النقدية والعلمية، ومهما حرص على تجاوز الهالة المعنوية الكبيرة التي تفرضها عليه تلك القامة العالية في مجال الدراسات التراثية.
قراءة التراث... من اليسار
يمكننا أن نضع إسهامات العلوي ضمن سياق موجة التأريخ اليساري التي انطلقت منذ خمسينيات القرن الماضي مع المؤرخ العراقي فيصل السامر، صاحب كتاب «ثورة الزنج» (1954)، والتي بلغت ذروة نضوجها المنهجي والفكري مع حسين مروة في السبعينيات والثمانينيات من القرن ذاته. وقد كانت تلك الموجة استمراراً للعمل المنهجي الكبير الذي قام به في السابق كلٌ من طه حسين وأحمد أمين في محاولاتهما لإدخال المناهج التاريخية الغربية الحديثة، ذات الطابع الوضعي، إلى مجال الدراسات الإسلامية، فحاول المؤرخون اليساريون إثراء تلك المناهج بمفاهيم المادية التاريخية المشتقة من الفلسفة الماركسية (كما استوعبت عربياً في تلك الفترة) وبالأدوات المنهجية التي استعملت في المدرسة الاستشراقية السوفيتية. ورغم أهمية وجدية تلك المحاولات، ودورها في إحداث تغير مهم في العقلية السائدة في معالجة التراث، ومحاولاتها لإخراجه من خانة المقدس، فإن مدرسة التأريخ اليساري قد عانت من الكثير من النواقص والثغرات، كان أهمها إفراطها في الأدلجة والتسيس، فكثيراً ما قامت بلي عنق التراث لتقوله ما لا يستطيع قوله عن القضايا والهموم السياسية للحاضر، وأوقعها تحيزها الأيديولوجي في الكثير من القراءات الأحادية والاختزالية، هذا فضلاً عن قيامها بإسقاط شامل لمفاهيم الحاضر على الماضي، وتجميدها لحركة التاريخ ضمن قوالب ومقولات جاهزة وممجوجة. وهكذا لم تتمكن مدرسة التأريخ اليساري، رغم كل انجازاتها، من تجاوز الخطاب الأيديولوجي عن التراث إلى تقديم قراءة تراثية تستحق صفة العلمية.
وعلى الرغم من أن هادي العلوي كان أحد أبرز أعلام تلك المدرسة، إلا أنه تمتع بفرادة خاصة ميزته عن بقية أعلامها، وميزت أسلوب تعاطيه مع التراث عن الأسلوب العام السائد فيها، ولعل سر هذه الفرادة كان يكمن بقدرته على تحقيق فهم داخلي مرهف وعميق للتراث، فالتراث لدى العلوي لم يكن مجرد وسيلة لإسقاط هواجس وهموم الحاضر على ماضٍ تم استنطاقه بما يناسب أهواء المستنطقين، بل كان أرشيفاً حضارياً هائلاً تجب دراسته في ذاته ولذاته، ومن خلال مفاهيمه ومصطلحاته وأجوائه، باعتباره أحد أهم العناصر المشكلة للذاكرة والوجدان الجمعيين. بهذه العقلية استطاع العلوي أن يتجاوز الكثير من ثغرات ونواقص التأريخ اليساري، وإذا كنا نرى في كتاباته تعاطفاً مشبوباً مع المحرومين والمضطهدين في التراث، فإن ذلك التعاطف لم ينتقص من موضوعية تلك الكتابات ودقتها العلمية، ولم يمنع العلوي من أن يضيء التراث بأسلوب المؤرخ المحترف والمتمكن تماماً من مادته التاريخية.
شيخ المؤرخين المشاكس
أحدث هادي العلوي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي هزة كبيرة في الحياة الثقافية العربية مع صدور كتبه الأكثر إشكالية، ففي حين تجنب معظم المؤرخون العرب الخوض في القضايا التراثية الشائكة، قرر العلوي أن يخلخل أساسيات وثوابت النظرة التقليدية للتراث والتي يسودها مبدأ القداسة اللا تاريخي: فكل أفعال وتصرفات وأقوال السلف الصالح، ومهما كانت مغرقة في دنيويتها وتاريخيتها، هي أفعال مقدسة فوق مستوى النقد والتحليل التاريخي. وقد أحدث العلوي خرقاً هاماً لهذا المبدأ وخاصةً في كتبه الثلاثة الأكثر شهرةً: «خلاصات في السياسة والفكر السياسي في الإسلام» (1974)، «من تاريخ التعذيب في الإسلام» (1986)، «الاغتيال السياسي في الإسلام» (1988)، حيث استطاع بالاعتماد على أكثر المصادر التاريخية دقةً وموثوقية تحليل أشد فترات التاريخ الإسلامي قداسةً بأسلوب علمي رصين ركز فيه على الأبعاد التاريخية والسياسية والاجتماعية لأحداث وشخصيات تلك العهود بصرف النظر عن أبعادها الدينية ودلالاتها التقديسية، وكذلك استطاع تسليط الضوء على أكثر زوايا التراث إعتاماً، وقد قام بكل هذا على أساس مبدئه الشهير: «تقدير الأسلاف وفقاُ لماهم عليه وليس وفقاً لما نتمناه»، ليكون لكتبه بالمحصلة تأثير الصدمة في وسط فكري وثقافي راكد وخامل.
وقد جلبت تلك الدراسات للعلوي الكثير من الاتهامات والتهديدات التي وصلت إلى حد رميه بالعمالة للصهيونية، وإصدار فتاوى تحلل إهدار دمه، وهذا كان أمرا متوقعاً على كل حال، ولكن الأمر المستغرب كان أن أحداً من المعترضين على هذه الكتب لم يحاول أن يخوض حواراً جدياً مع مؤلفها، أو تفنيد التحليلات والوقائع الواردة فيها، ربما لأن أياً منهم لم يستطع التشكيك بالمصادر التاريخية التي اعتمد عليها العلوي، أو دقته وأمانته في استخدامها. والأغرب من هذا وذاك أن تلك الكتب قد جلبت له عداء البعض ممن يوصفون بالمثقفين «التقدميين» و«التنويريين» لأنهم لم يستطيعوا التسامح مع موضوعية العلوي التي جعلته يظهر الممارسات والمواقف الإيجابية في التراث كما أظهر جوانبه وممارساته السلبية!!!
من الموسوعية إلى الإشراق
اكتسبت تجربة هادي العلوي في مراحلها الأخيرة مذاقاً فريداًَ خاصاً، فقد اكتمل التماهي بينه وبين ميدان دراسته، إلى حد أنه أصبح وثيقةً حيةً من وثائق التراث، وصار المرجع الأكثر إطلاعاً وفهماً لمفرداته ورموزه. وظهرت في تلك الفترة أيضا علامات تأثره الشديد بالفكر الصوفي الإسلامي الذي طبع كتاباته وسلوكه الشخصي بعمق، فأضحى يذكرنا بأقطاب التصوف الكبار الذين قرأنا عنهم في الكتب القديمة.
ولعل كتابه «مدارات صوفية» (1997) هو أبلغ تعبير عن تلك المرحلة، فذلك الكتاب شديد الخصوصية والتميز والذي يندر أن يقرأه أحد بجدية دون أن يتأثر به حتى النخاع، قد حوى خلاصة تأملات وآراء العلوي، فالبحث الذي يعدنا به عن «تراث الثورة المشاعية في الشرق»، كما يظهر في العنوان الفرعي للكتاب، يتحول إلى نوع خاص من الشطح الصوفي، تتوضح فيه بجلاء نظرية العلوي عن المشاعية الشرقية التي تشكل نوعاً من الجوهر الثابت للشرق الإنساني اللا مادوي، في مقابل الغرب المتوحش والمادي (بالمعنى السلبي للكلمة) الذي تسود فيه أعراف وأخلاقيات الملكية الخاصة. وبهذا التعارض الجوهري الذي أقامه بين الشرق والغرب انزلق العلوي إلى ضرب خاص من ضروب الاستشراق المعكوس، ويمكننا تفسير ذلك الانزلاق باعتماد الأحكام التي أطلقها العلوي في المرحلة الأخيرة من حياته على حدسه الخاص بالتراث أكثر من اعتمادها على الدراسة التاريخية الموضوعية.
ورغم كل الانتقادات الجدية التي يمكن توجيهها إلى الآراء والأفكار التي عبر عنها العلوي في تلك المرحلة، فإن الإنجاز الكبير الذي حققه فيها هو إعادته الاعتبار للعرفان الصوفي الإسلامي الذي أقصي دائماً من دائرة اهتمام المثقفين العرب المعاصرين.
وفي الختام نقول إن المرء قد يتفق مع هادي العلوي أو يختلف، وقد يجد الباحث أن منهجياته في دراسة التراث قد استهلكت أو تقادم عليها الزمن، ولكن لن يكون بمقدور أحد أن يتغافل عن المكانة التي شغلها في الحياة الثقافية العربية، بوصفه واحداً من أهم آباء العقل العربي التنويري المعاصر.