محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث في ذكرى إدوارد سعيد: عندما أصبحنا شرقيين!!

كيف ومتى أصبحنا شرقيين؟ هذا السؤال الذي قد يبدو غريباً أو شاذاً للبعض، يمتلك أهميةً فكرية كبيرة قد تمكننا من التقاط واحدة من أهم إشكالياتنا الحضارية المعاصرة، فالتقسيمات البديهية السائدة مثل «شرقي» و«غربي» أصبحت مترسخة في اللغة والمناخ الفكري العام، بحيث أصبح تفحصها ومساءلتها، للكشف عن جذورها ودلالاتها، أمراً ملحاً لفتح آفاق جديدة للتعقل والتفكير.

ولعل الإسهام الفكري الجبار الذي قدمه المفكر الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد (والذي تمر في هذه الأيام الذكرى السنوية الخامسة لرحيله) في كتابه المفصلي «الاستشراق» كان هو المحفز الأكبر لطرح هذه القضية ومعاينتها، حيث استطاع سعيد، بالاستعانة بكل منجزات الفلسفة النقدية المعاصرة، في نقدها للمعرفة البشرية، أن يبين كيف أن «الشرق» -بكل ما يحمله هذا المصطلح أو المفهوم من معانٍ ودلالات ثقافية- ماهو إلا محصلة لإنشاء معرفي «غربي» قام بحصر المنطقة الواقعة إلى الشرق من أوروبا ضمن عدد من التصورات والمحددات الضرورية لأجل تمثل العقل الغربي لها، وإخضاعها معرفياً تمهيداً لإخضاعها سياسياً، فتم افتراض وجود جوهر ثابت لـ«الشرق» وضع في تعارض مع جوهر ثابت مفترض لـ«الغرب»، وألصقت بالجوهر الشرقي الكثير من الخصائص والصفات السلبية في معظمها، حيث جعل التخلف والركود والتعصب والميل إلى الفكر الأسطوري والخرافي ورفض العقلانية محددات أساسية وجوهرية للروح الشرقية الثابتة واللامتغيرة عبر التاريخ، أما المفكرون والأدباء الذين أرهقتهم عقلانية ومادوية الغرب فقد أعلوا من شأن هذه الخصائص واعتبروها علائم أبدية على سحر الشرق وروحانيته!!
هكذا كان «الشرق» دائماً ظاهرة نصيِّة غربية، حكمت عملية إنتاج المعرفة عنها مجموعة من المؤسسات والتقاليد وأنظمة الترميز المتعارف عليها، والتي فرضت بثقلها على كل تقرير يصدر عن «الشرق».
ومن هذا المنطلق البحثي أعلن إدوارد سعيد إعلانه الشديد الأهمية بأن الشرق «ليس حقيقةً خاملة من حقائق الطبيعة، فهو ليس مجرد وجود ثمَّة، بالضبط كما أن الغرب نفسه ليس مجرد وجود ثمَّة...ومن ثمَّ فإن الشرق بقدر الغرب نفسه تماماً هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر والصور والمفردات التي أسبغت عليه حقيقيةً وحضوراً في الغرب ومن أجل الغرب» فاتحاً بذلك الباب للتساؤل الذي طرحناه في بداية حديثنا، وهو التساؤل الذي لم يعالجه سعيد بشكل مباشر في كتابه الذي كان موجهاً أساساً للأوساط البحثية الغربية، فلم يكن يحتمل معالجة تساؤل بهذه الأهمية، يتعلق بمدى تأثير الاستشراق على نظرة شعوب منطقتنا إلى ذاتها.
يمكننا أن نحدد بداية ذلك التأثير الاستشراقي منذ ازدياد حركة الانفتاح والإطلاع على الفكر الأوروبي والأمريكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث بدأنا نشهد في كتابات أعلام النهضة الفكرية العربية (أمثال جمال الدين الأفغاني وطه حسين وعبد الرحمن بدوي) حديثاً عن شعوب «الشرق» والفكر «الشرقي»  والروح «الشرقية»، وقد ترسخت هذه المفاهيم والأفكار تدريجياً في المناخ الفكري والنفسي العربي المعاصر، حتى تجاوزت أوساط المثقفين، فبات الجميع يتحدثون عن عاداتنا «الشرقية» ومزاجنا «الشرقي» ومفاهيمنا «الشرقية»، كخصائص أزلية لافكاك منها، وكشرط جوهري لوجودنا التاريخي «أو اللاتاريخي بالأحرى»، وبلغ هذا الاعتقاد مداه الأبعد مع الموجة التي شهدها الفكر الإسلامي منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي رفعت لواءها الحركات السلفية التي أعلت من شأن خصائصنا الشرقية الثابتة بكل ما تحويه من نزعة جماعية وإيمانية وروحانية، ووضعتها في مقابل فردية الغرب وإلحاده ومادويته، هكذا اقتنع الجميع بأن سياقنا الحضاري كان ومايزال سياقاً ثابتا وجامداً ومتجانساً لاتؤثر عليه حركة التاريخ، ولم يعرف شيئاً من التناقضات التي يشترطها أي تغير تاريخي.
إذا عدنا إلى أرشيفنا التراثي سنرى أن الكتاب المسلمين القدماء لم يستعملوا أبداً صفات ومصطلحات مثل «شرق، شرقي، شرقيون» وهذا أمر طبيعي جداً، فمن الناحية الجغرافية البحتة نحن لسنا شرقيين إلا بالنسبة لأوروبا، في حين أننا «غربيون» بالنسبة لشعوب شرق آسيا، و«شماليون» بالنسبة لشعوب إفريقيا السوداء، وبالتالي فإن هذا التحديد الذي لا يهم سوى الفكر الأوروبي (ومن ثم الأمريكي) المعاصر ذي النزعة المركزية لم يشغل بال مفكرينا القدماء، والتعبير الوحيد الذي استعمل قديماً للدلالة على الذات كان تعبير «ديار الإسلام» الذي لم يكن يحمل أي مدلول جغرافي، فديار الإسلام يمكن أن تكون في أقصى الشرق كالتجمعات الإسلامية شبه المعزولة التي أسسها التجار المسلمون في الصين، كما يمكنها أن تكون في أقصى غرب أوروبا كالدولة والمجتمع الإسلامي في الأندلس، وهكذا فإن تعبير ديار الإسلام كان تعبيرا حضارياً-دينياً متمركزاً على الذات الإسلامية بالدرجة الأولى.
وطبعاً فإن السياق الحضاري لـ«ديار الإسلام» لم يكن دائماً سياقاً مغلقاً وجامداً، فقد تأثر وأثر عبر تاريخه الطويل بالكثير من الحضارات والثقافات الإنسانية، كما أنه عرف الكثير من التناقضات الفكرية والثقافية ذات الجذور الاجتماعية العميقة.
وبالتالي فإن تبنينا لمفهوم «الشرق» بخصائصه الجوهرية ليس إلا موضعةً وتشييئاً للذات (جعلها موضوعاً للآخر» وقبولاً بالمحددات الفكرية للطرف المنتصر حضارياً تاريخياً، وتأبيد انتصاره وجعله من الحقائق البديهية للوجود والتاريخ.