غرفة الكتابة تضيء عتمة النص
«غرفة خاصة بالمرء وحده» عنوان كتاب مثير كتبته الروائية البريطانية الشهيرة فرجينيا وولف، قبل نحو ثلاثة أرباع قرن. وعلى رغم كلاسيكية هذا النص، إلا أنه لا يزال أحد أعمدة الكتابة النسوية، وربما من أهم الكتب التي عالجت باكراً خصوصية كتابة النساء ومعنى النسوية في الأدب. إذ لطالما كان هذا المفهوم ملتبساً وغامضاً. الباحث رضا الطاهر في كتابه «دراسة في كتابة النساء»، انطلق من «غرفة فرجينيا وولف» ليدخل غرفاً أخرى ويضيء عتمة نصوص وقعت تحت مطرقة الوصف الذكوري، حيث أسهم فساد النظام النقدي في الثقافة العربية في إقصاء كتابة النساء وتهميشها وتسفيهها، ولعل استثمار المؤسسة النقدية الذكورية لمفهوم كتابة النساء هو في نهاية المطاف يدخل في إطار العقلية البطريركية، وجوهرها هو تهميش إبداع المرأة.
تلتقط فرجينيا وولف فكرة مهمة، حين تؤكد على ضرورة أن يمتلك المرء مالاً وغرفة خاصة إذا ما أراد أن يكتب رواية، وتشير إلى أهمية الملكية والتعليم لتحقيق نص نسوي يضاهي إبداعات شكسبير، لكن النساء عموماً، يواجهن صعوبات لا يواجهها الرجال، ولهذا السبب أقصيت النساء عن الكتابة، وأرغمن على التكيف للنماذج الذكورية، وجرى التحكم بنتاجهن، واستغلال هذا النتاج لمصلحة الجماعة السائدة.
في «الغرفة» تبحث وولف العوائق المادية التي تواجهها النساء في الحياة الفعلية وفي التفكير. وتلفت إلى أن ضمان الشروط المادية للحرية وصفاء الذهن، بالنسبة للكاتبات، هو وحده الذي يسمح لهن بالمشاركة في إنتاج الأدب.
تقول: «عندما بدأت الكتابة لم يكن أمامي الكثير من العوائق المادية. كانت الكتابة مهنة محترمة وغير مؤذية. ولم يكن القلم يهدد السلام العائلي. كما لم تكن هناك حاجة لأموال العائلة. فبستة عشر بنساً يستطيع المرء أن يشتري من الورق ما يكفي لكتابة كل مسرحيات شكسبير، إذا كانت لديه مثل هذه القدرة.. إن رخص الكتابة هو بالطبع سبب لنجاح النساء ككاتبات قبل أن ينجحن في المهن الأخرى».
هكذا كانت وولف تطالب بمكان ملائم للكتابة، وتشير إلى أن شارلوت برونتي كانت تتوقف عن الكتابة لتتحول إلى تقشير البطاطا، وقد عاشت حياة راكدة في بيت كاهن، ترتق الجوارب في وقت كانت تتوق إلى أن تجوب العالم حرة، أما جين أوستن فقد كانت تخفي ما تكتبه تحت كتاب إذا ما دخل أحد إلى غرفة الاستقبال.
ما كان يحدث قبل قرن تقريباً بالنسبة للكاتبة الأوروبية، هو ما يحدث الآن للكاتبة العربية، إذ لم تحصل على شرعية كاملة في تحرير نصها من تهمة الذكورية، إذا لم نقل إنها هي نفسها تسعى لمقارعة النص الذكوري بأدواته، وإلا كان مصيرها الصمت أو الغياب.
في «غرفة تخص المرء وحده» تستكشف فرجينيا وولف صمت النساء اللواتي «خدمن طيلة قرون باعتبارهن مرايا تمتلك القوة الساحرة والفاتنة لتصوير الرجل بضعف حجمه الطبيعي»، وللتخلص من هذا الواقع التاريخي، تنصح وولف وأخريات بخلخلة اللغة الذكورية والإصغاء إلى المشاعر، ففي ذلك محاولة جدية لتدوين نص المرأة الذي بقي في الظل مقموعاً ومقصياً. فيما استعار الرجل دور المرأة للكتابة في «الضوء الأحمر للعاطفة أكثر مما في الضوء الأبيض للحقيقة»، وهو ما جعل القيم الذكورية تطيح كتابة المرأة نفسها، ذلك إن الكتاب الذي يتحدث عن الحرب هو كتاب جيد، أما الكتاب الذي يعالج مشاعر المرأة فهو كتاب تافه. وتؤكد وولف في المقابل على الاختلاف، إذ من المستحيل المقارنة بين نص تولستوي ونص جين أوستن مثلاً، وكان بالإمكان وبقليل من المغامرة، أن تقرع النصوص النسوية الأبواب المغلقة في الإعلان عن مشاعرهن بحبرهن الخاص، وتالياً تأسيس أسلوب أدبي نسائي يدير ظهره للتقاليد الذكورية في النظر إلى الأشياء، لأن تاريخ اللغة هو الذي حدد تاريخ الكتابة، وحين تنسف الكاتبة هذا التاريخ ، ستصل إلى نصها الخاص، و«غرفتهن الخاصة بهن».
النظرية النسوية الجديدة التقطت الخيوط الأولى التي غزلتها فرجينيا وولف في خلق نسيج أنثوي مفارق. ويعتبر كتاب إيلين مويرز «أديبات» محاولة أولى في توصيف كتابة النساء باعتبارها «تياراً عميقاً سريعاً وجارفاً يتدفق تحت أو على امتداد التقليد الذكوري الرئيسي»، ومحاولة الوصول إلى «الجملة النسائية».