محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث عندما تسقط بغداد

كثيرا ما يجد المؤرخون لذّةً كبيرة في تحديد نقاط تاريخية مفصَّلية يعتبرونها علامةً على حدوث تغيُّر كبير في المسيرة التاريخية للشعوب والأمم، بحيث لا تعود الأمور والاحداث بعدها تجري بالطريقة والوتيرة نفسها التي كانت تجري بها من قبل، وترتبط هذه النقاط التاريخية عادةً بحدث تاريخي شديد الأهمية والخطورة. وهكذا فإن دارسي التاريخ الإسلامي يحددون عام 656هـ على أنه نقطة تاريخية مفصَّلية في التاريخ العربي الإسلامي إذ شهد هذا العام سقوط مدينة بغداد بيد المغول مع كل ما استتبعه ذلك من تغيرات تاريخية كبيرة، ويمكن لمؤرخي المستقبل أيضا أن يحدِّدوا عام 2003م على أنه نقطة مفصَّلية أخرى في تاريخنا باعتباره قد شهد سقوط بغداد بيد قوات الاحتلال الامريكي مع ما جره ذلك السقوط من تطورات تاريخية نعيشها اليوم.

سنقوم هذه المرة بالعودة إلى القرن الخامس الهجري لنرصد بدورنا إحدى تلك اللحظات التاريخية المفصَّلية والتي تتعلق أيضا (وليس ذلك من قبيل المصادفة) بسقوط بغداد، وهي لحظة تاريخية أهملها الكثير من المؤرخين أو مروا عليها مرور الكرام، وأعني بها سنة 451هـ التي شهدت سقوط مدينة بغداد بيد السلاجقة، ويمكن أن نقول إن تلك اللحظة التاريخية تحمل من الأهمية الحضارية أكثر بكثير مما تحمل من الأهمية السياسية –التاريخية.

قبل دخول السلاجقة إلى بغداد كان للميدان المعرفي الإسلامي (بفرعيه المتمايزين: العلوم النقلية والعلوم العقلية) استقلاليته النسبية عن الميدان السلطوي، حيث تنقَّل ممثلو الميدان المعرفي بمختلف فئاتهم (فقهاء،متكلمون، فلاسفة، أدباء، أطباء، فلكيون.....الخ) بين المعاداة المكشوفة للسلطة و بين التعاون معها وخدمتها والإسهام في صياغة خطابها السلطوي، مع الحفاظ على خصوصيتهم واستقلالية عملهم وخياراتهم ضمن ميادينهم المعرفية، فخدمة المعرفي للسلطوي كانت حتى ذلك التاريخ تعبِّر عن التلاقي المشروط بين الميدانين وليس الاندماج الكامل بينهما. 

ومن خلال هذه الاستقلالية التي تمتع بها الميدان المعرفي كانت المعرفة الإسلامية قادرة دائما على إنتاج السلطة (ولم يكن العكس صحيحا دائما) وبناء الدول والامبراطوريات، فكثير من الدول المهمة بما فيها الخلافة العباسية نشأت أولا كدعوات دينية-سياسية، وبعض تلك الدعوات كان لها جانبها الفكري الفلسفي البحت إلى جانب جانبها الديني-السياسي كالدعوة الإسماعيلية التي أنشأت الخلافة الفاطمية. ولكن كل ذلك تغيَّر مع دخول السلاجقة بقيادة «طغرل بك» إلى بغداد وسيطرتهم على مشرق العالم الإسلامي (وهم من الشعوب التركمانية التي كانت لاتزال شديدة التخلف والبربرية, وتقبع على هامش التأثير الحضاري الإسلامي) ، فقد كانت الخطوة الأولى التي استهل بها السلاجقة عهدهم هي فرضهم بالحديد والنار لمذهب ديني رسمي وحيد لامبراطوريتهم تميز بنزعته المغرقة في السلفية والجمود والانغلاق وحرَّموا كل ماعداه من مذاهب واجتهادات دينية، ثم حاربوا كل أشكال النظر العقلي فمنعوا الفلسفة وعلم الكلام (بمافيه علم الكلام الأشعري) وغيرهما من الميادين العقلية، واستنُّوا على نطاق واسع عادة حرق الكتب المخالفة لاتجاهم السلفي.

وبعد أن نجحوا بتدجين الحقل المعرفي الإسلامي وصبِّه في قوالبهم الضيقة، انتقلوا إلى الخطوة الثانية وهي دمج وإلحاق ما تبقى من المعرفة الإسلامية دمجا وإلحاقا تاما بالسلطة الاستبدادية التي مثلوها، وهكذا فقد أنشأ وزيرهم الشهير «نظام الملك» فيما بعد  المدرسة النظامية في بغداد وجعل لها فروعا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهي المدرسة التي قامت وعلى أشلاء الحرية السابقة بفرض الخطاب المعرفي الاحادي للسلطة السلجوقية، وكان من أهم من درَّسوا فيها «أبو حامد الغزالي» صاحب كتابي «تهافت الفلاسفة» و»إحياء علوم الدين»، وتدريجيا نشأت النسخة السلجوقية عن الإسلام فلم يعد من الممكن التمييز فيها بين قلم الغزالي وسيف نظام الملك وسلطانيه «ألب أرسلان»و «ملكشاه». وتم حل معادلة السلطة والمعرفة في الإسلام حلا نهائيا لمصلحة السلطة. 

هكذا كان عام 451هـ الحد الفاصل بين زمن الحرية وعصر الجبرية في تاريخ الحضارة الاسلامية، قد يبدو الحدث للبعض مغرقا في تاريخيته، ولكن قليلٌ منا يعرف أننا مازلنا حتى اليوم نمشي وعلى عقولنا ختم نظام الملك وإمضاء الغزالي. 

آخر تعديل على الثلاثاء, 30 آب/أغسطس 2016 22:19