محمد برادة: كلّ مبدع له تصوراته النقدية
محمد برادة (مواليد الرباط 1938) اسم معروف لدى القارئ العربي بفضل إسهاماته المتعددة في إثراء المشهد الثقافي العربي، كتب برادة القصة القصيرة، والرواية، كما وضع الكثير من الدراسات النقدية الهامة «فضاءات روائية» و«الرواية ذاكرة مفتوحة»، إضافة إلى ترجماته الكثيرة لأعمال رولان بارت وميخائيل باختين وجان جينيه.. أثناء زيارته الأخيرة لدمشق للمشاركة في «ملتقى الرواية العربية» كان هذا اللقاء..
• لديك قناعة بعدم وجود نصّ عربي بصيغة محلية خالصة.. هل هذا عائد للتناص والتأثير، أم المسألة أبعد؟
أعتقد أننا في عالم اليوم من الصعب أن نكتب لما هو محليّ، أو لما يتصل بمجتمعاتنا وكأنها معزولة عن العالم، ذلك أنّ مسألة المثاقفة، أي تبادل التأثير بين الثقافات أصبحت حتمية، ومن ثمّ سيكون من الطبيعي أن يتأثر كتّابنا بكتّاب العالم، مثلما أنّ كتّاب العالم يتأثرون ببعض نصوصنا القديمة، وربما الحديثة نتيجة للترجمة التي أصبحت تهتم وتحتفل بالإنتاج الأدبي العربي المعاصر. وفضلاً عن كل ذلك فإن الكاتب العربي يقرأ الآداب العالمية، وثمة عنصر فعّال هو التناص، أو تبادل التأثير في هذا، لأنّ مشكلات المجتمعات، أو مشكلات الإنسان لها طابع كوني، هكذا يصبح من الطبيعي أن نتقبّل هذه الفكرة، لا على أساس أنها نوع من التغريب، أو قطع الصلة بالتراث، أو الانفصال عن المجتمع، بل على أساس أننا نعيش، أكثر وأكثر، داخل عالم يتبادل التأثير، ويتبادل التفاعلات المختلفة، سواء في مجالات الحياة العملية، أو في مجالات الفكر والإبداع.
• ترى ما هو شكل العلاقة بين فتوحات الثقافة، وارتدادات المجتمع، خاصة وأنك أشدت بالإنجاز الحداثي للرواية داخل مجتمعاتنا المغلقة؟
عبارة «ارتداد المجتمعات العربية» تحتاج تدقيقاً، فالمقصود بها هو أنّ محاولات النهضة العربية، منذ بداية القرن العشرين، لم تتمكّن من مجاوزة عقبات تتصل بتنظيم المجتمعات، وبقيمة الفرد، وبتحديد العلاقة بين الماضي والمستقبل.. هذه التعثرات، ذات الطابع السياسي والفكري والثقافي، هي التي جعلتنا نحسّ أنّ العالم يتقدم ونحن متوقفون في المحطة نفسها، لكن هناك مفارقتين تستدعيان التحليل، هما التعليم الذي أصبح سائداً في البلدان العربية، والانفتاح على العالم الخارجي بوسائط متباينة، فهذان قد جعلا بذور الوعي المعاصر تأخذ بروزاً لافتاً في مجالات الثقافة عموماً، والإبداع خصوصاً، ولكن عندما نحاول قياس هذه الاندفاعة، وهذه المنجزات، على صعيدي الثقافة والإبداع، نجد أنهما لا توازيان ما هو مطلوب منا في عالم اليوم، مما يعني أنّ توقّف المجتمع على مستوى البنيان، وعلى مستويي التطور الاجتماعي والاقتصادي، يجعل تلك المنجزات مهددة بالانحسار والتراجع.
إنها لمعادلة صعبة بالنسبة للمفكرين والكتاب العرب الذين يعيشون ضمن شروط مضنية تجعل محاولاتهم وإنتاجاتهم في مهب الريح، هذا هو المقصود! أي التضافر بين ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي، من جهة، وبين ما هو إبداعي وثقافي، من جهة أخرى، وهذا شرط أساسي لنهضة شاملة تستطيع أن تحرر الفرد من عبوديته للمؤسسات، وللماضي، وللوصايات بأنواعها كلها.
• تبادلت الرسائل مع الروائي محمد شكري.. ما أهمية هذا النوع في الخوض ضمن مناطق خاصة وحميمية في التفكير والمشاعر؟
هذه رسائل كنا نتبادلها كلحظات حميمية. فقد كان المرحوم محمد شكري يعيش في ظروف صعبة نتيجة طفولته التعسة، ونتيجة الظروف العائلية القاسية التي عاشها، وعندما ربطت الصداقة بيننا كنا نتبادل الأفكار، عندما نلتقي، حول الإبداع.. الحياة.. المجتمع.. وعندما كنت أسافر خارج المغرب أكتب إليه بعض الرسائل لاستحثه على المزيد من الكتابة، ولأطرح عليه بعض الأفكار، وكان يفعل الشيء ذاته، وعندما اضطر إلى دخول مستشفى الأمراض العقلية، خلال فترة صعبة من حياته، كان يكتب لي رسائل يومية، وقبل وفاته ببضع سنوات أعدت قراءة الرسائل التي في حوزتي، فوجدت أنها تنطوي على أفكار وملاحظات وتأملات جديرة بأن تعرف، خاصة وأنّ مسألة التراسل بين الكتّاب أصبحت نادرة. طلبت منه جمع الرسائل لتقديمها للقرّاء، فقد تفيد بعض الدارسين في معرفة إنتاجه وإنتاجي، أو الإطلاع على آرائنا في مسائل عديدة، وفعلاً لقيت الرسائل التي حملت عنوان «ورد ورماد» صدى واسعاً بين القرّاء، داخل المغرب وخارجه.
• العلاقة بين النقد والإبداع علاقة إشكالية: كيف توائم بين المجالين؟
لم أولد وعلى جبيني صفة ناقد. ولدت وتعلمت ثم بدأت أكتب نصوصاً. جئت إلى النقد بعد دراستي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وظللت أكتب القصص القصيرة، ثم الرواية والنقد، على أساس أنه لا تعارض بين هذه المجالات، بمعنى أنّ المبدع دائماً يستند إلى خلفية فكرية، ومفاهيم للأدب والإبداع، وهذه الأشياء تتفاعل فيما بينها.
اعتقادي الراسخ هو أنّ كل مبدع له تصوّراته النقدية حتى ولو لم يكن يكتب النقدّ
• في عالمنا هذا الذي تتكسر فيه الحدود.. ألم تحن فرصة الثقافة العربية للوصول إلى العالم؟
أظن أنّ هذا بات يدق أبوابنا، وأصبح حقيقة ملموسة، وكما قلت مطلع حديثنا، إننا لا نعيش بمفردنا في هذا العالم، لذا علينا أن نعبّر عن أنفسنا، وأن ندافع عن قيمنا وعن حياتنا من خلال الإبداع لأنه لغة كونية، يمكن أن تصل إلى الناس في كل أصقاع الأرض.
على مؤسساتنا توفير الحدّ الأدنى لمبدعينا كي يتمكنوا من أن يوطدوا علاقتهم بالمتلقين داخل الوطن وخارجه، كما أن عليها توفير الشروط لتقديم إبداعاتنا للعالم الخارجي.
• إلى أي حدّ تتابع الرواية السورية؟
أتابعها كلما أتيحت لي الظروف، ويجب أن أعترف أنه في العقدين الأخيرين أصبحت هناك عوائق في توصيل الكتاب إلى القارئ العربي، فهناك الكثير من النصوص التي فاتتني قراءتها، ولكنني في هذه الزيارة تزودت ببعض النصوص، ووجدْتُ العلاقة مع بعض الروائيين، وآمل أن أدمج هذه النصوص في ما أعده من دراسات حول المتخيّل الروائي العربي في الفترة الراهنة، من حيث نوعية هذا المتخيل، وما ينتجه من قيم وأشكال ولغات ورؤى، أو رؤيات إلى الحياة.
النصوص السورية أساسية في تاريخ الرواية العربية الحديثة، وهناك أقلام شابة تعدنا بالكثير.