مناماتُ أُمّيْ
كنا نسيرُ، أنا وأنت، على طريقٍ ترابي يلينُ تحت خطواتنا، و بيتُ جدك بعيدٌ على الرابية وراءنا، عذوبةُ الهواء تلمسُ شعركَ الطويل، كأنها ظهيرةٌ من ظهيراتِ آذار، الشمسُ لطيفة، السماءُ زرقاء صافيةٌ كالمرآة، يدي تمسكُ بيدك و أنا أتطلّعُ إلى شجرةِ المشمش الوحيدة وقد انفجرَ بياضُ زهورها؛ فجأةً، كالخائفةِ التفتُّ حولي فلم أجدك؛ نظرتُ إلى البعيد فرأيتُكَ تختفي راكضاً بين السنابل السامقة، وبالكاد ألمحُ رأسك يلوحُ فوق تماوجها الأخضر. ريحٌ خفيفة كانت تهبُّ، وأنتَ في الرابعةِ من عمرك.
هرولتُ لألحقَ بك قبل أن تضيعَ مني. ولكن، كيف ستركضُ عجوزٌ توجعُها على الدوام ركبتاها اليابستان؟ صادفتُ ثلاثةَ رجالٍ لم أعرفهم، فاستغثتُ بهم كي يساعدوني في العثورِ عليك، غير أنهم اتجهوا إلى اليسار؛ كم ألححتُ وأنا أصيح: لقد ركضَ إلى الجهةِ الأخرى. كأنهم لم يسمعوني، فأكملوا طريقهم بين السنابل و اختفوا مثلك، وبقيتُ وحدي.
*****
معلَّقةً في البئر أرفعُ رأسي، و أرى السماء قريبةً زرقاءَ مثل عينِ جدّتك. أدركتُ أني قد نجوتُ، و ما عليّ الآن إلا الصعود. لكني لا أعرفُ كيف سأخرجُ من هذه الهاوية . أنتبهُ إلى التجاويفِ المحفورة في جدرانِ البئر : التجاويف التي يرتقي بها الحفّارون و يهبطون ، أتقرّى عمقَها بيدي، وأبتهجُ عندما تختفي يدي كلُّها في بطنِ أحدِها: ستسعُ قدمي الحافيةَ إذاً!
ولا تصادفُ خشيتي ثعباناً يلتفُّ ولا عقرباً يغفو متخفّياً في عتمتها.
أخرجُ أخيراً من البئر، أستطلعُ ما حولي بعينين مزمومتين، فلا أرى إلا حقولاً خضراء شاسعة تخلو من البيوت؛ تجولُ عيناي و لا أرى أحداً. الأفقُ بعيدٌ عني . السماءُ رمادية معَ حلولِ المساء، و غيومٌ رقيقة تلبثُ ساكنةً في الأعالي. يقتربُ سربٌ من طيور لا أعرفْ نوعَها و لا عددَها، و يظلُّ يرفرفُ فوق رأسي؛ أسمعُ رفيفَ الأجنحة، و ألمحُ الريشَ الأزرق لمخلوقاتِ الله الغريبةِ هذه. أتساءلُ: ألا تشبهُ طيورَ الوروار التي شغفتُ بها طويلاً؟ ثم يحطُّ أمامي، على مقربةٍ من قدمي اليمنى، طائرٌ آخر لا أعرفهُ أيضاً، طائرٌ صغيرٌ متعب مرخى الجناحين فأحسبهُ جائعاً، أمدُّ يدي إلى جيبِ فستاني الأسود كي أستخرجَ كسرةَ خبزٍ أزقوهُ بها، فلا أجدُ شيئاً.