وما زالت عقدة الهولوكوست تطارد السينما: من «قائمة شيندلر» إلى «المزيفون» و«القارئ»
رأى وزير خارجية بريطانيا الصهيوني (ولا نصفه بالصهيوني بسبب كونه يهودياً) ديفيد ميليباند أن تشبيه المحرقة الإسرائيلية في غزة بالهولوكوست هو مبالغة، ولسنا هنا في موضع المقارنة بين الحدثين، لكن تصريح الوزير البريطاني، يشير إلى طريقة غربية في النظر إلى الهولوكوست كحالة استثنائية لم تصب شعباً آخر، وإلى رغبة بتقديس وتنزيه هذه الحالة وعدم مقارنتها بأي شيء، حتى ما يحضر بالذهن بشكل فوري، أي ما يعانيه ضحايا من يسمون بضحايا المحرقة. وقبل أيام طردت الأرجنتين القس البريطاني وليامسون لأنه شكك في رواية غرف الغاز النازية، ورأى أن هناك مبالغة في تقدير عدد الضحايا اليهود في معسكرات الاعتقال
ورغم أن العرب والفلسطينيين ليسوا طرفاً في الجدل حول الهولوكست، وليسوا من صنعوه ولا هم المجبرون على دفع أثمانه، إلا أن هذا الخطاب الإنسانوي المتباكي على الهولوكست، لا يزال إلى اليوم فاعلاً، ويخترق الأعمال الفنية، فيما تنعدم أي إشارة إلى جروح ساخنة كالجرح الفلسطيني. حين أنجز ستيفن سبيلبرغ الملتزم بإخلاص بدولة إسرائيل، فيلمه الشهير «قائمة شيندلر» 1993، حظي بتكريم لم يسبق له مثيل (أكبر عدد من جوائز الأوسكار 1994)، وتحول الفيلم إلى قضية تتجاوز كونه عملاً فنياً، والفيلم الذي يتحدث عن أوسكار شيندلر رجل الأعمال الألماني الذي أنقذ آلاف اليهود من معسكرات الموت (وشيندلر شخصية حقيقية)، خرج منه مشروع «شوا» للتاريخ الشفهي الذي سجل آلاف الشهادات للناجين من المحرقة، وهذه المادة تم تداولها بشكل واسع عبر العالم، وفي فيلم تسجيلي أنتجه سبيلبرغ ليكون مرافقاً لـ «شيندلر»، يطالب المخرج الأمريكي أن لا نسمح بعد اليوم بحدوث أعمال مروعة من هذا النوع، ويعرض صوراً لرواندا والبوسنة، لكن لا ترد أية إشارة لفلسطين، المفترض أن يتذكرها أوتوماتيكياً من يتحدث عن اليهود. سبيلبرغ سيعود في فيلمه «ميونيخ» 2005 ليدعي تقديم رؤية متوازنة للصراع، دون أن يعطي لمحرقة الشعب الفلسطيني (النكبة) الحيز الذي تستحقه. السنة الماضية فاز الفيلم النمساوي «المزيفون» للمخرج ستيفان روزوتسكي بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، والفيلم يصور تجربة مجموعة من اليهود الخبراء في تزوير العملة، في معسكرات الاعتقال النازية، حيث استفاد منهم الرايخ الثالث لتدمير الاقتصاد البريطاني عبر تزوير الجنيه الإسترليني، كما مولت هذه الجنيهات المزورة جانباً من الأعمال الحربية حسب الفيلم الذي يزعم استناده إلى وقائع حقيقية، وفي المرحلة الأخيرة من الفيلم يكلف المزيفون بتزوير الدولار الأمريكي وهو الأمر الذي من شأنه أن يغير من نتائج الحرب، لكن هذه الحفنة من (الأبطال) حسب الفيلم تقاوم القيام بهذه المهمة رغم قدرتها على ذلك، وبهذا ينقذ هؤلاء الإنسانية، وهم سينجون من الموت إثر هزيمة الجيش الألماني، إن صورة اليهودي العبقري، والأخلاقي الصلب في الفيلم تذكرنا بـ «قائمة شيندلر» أيضاً. هذا العام يقحم فيلم «القارئ» للمخرج البريطاني ستيفن دالدري، (والذي حازت بطلته كيت وينسلت على أوسكار أفضل ممثلة) قضية الهولوكوست، فبعد سرد أخاذ لقصة حب سرية بين فتى في الـ15 ، وامرأة ثلاثينية، تحتل القراءة والأدب جزءاً هاماً منها، إذ يقرأ الشاب الكتب للمرأة الأمية قبل كل ممارسة للحب، ويجري ربط لذلك بموضوعة السرية في الأدب الغربي وسحرها، نكتشف لاحقاً أن هذه المرأة التي تعيش نوعاً من التخفي ليست سوى حارسة سابقة في معسكر «أوشفيتس»، وهنا يركب على الفيلم فيلم آخر، رغم وجود بعض العناصر الدرامية التي قد تربط بين جزئيه، فنشاهد جلسات محاكمة طويلة للبطلة هانا شميت، ونقاشات بين طلاب حقوق (منهم الشاب نفسه) وأستاذهم عن المسؤولية الأخلاقية. رغم ذلك كان الفيلم عرضة لانتقادات واسعة، لأنه قدم صورة إنسانية لهذه المرأة، وحاول أن يبرر ما فعلته بكونها كانت مكرهة كالعديد من أبناء جيلها. تنتحر هانا في السجن الذي دخلته لذنب لم تقترفه، إذ تعترف بأنها من كتبت التقرير الخاص بمجزرة النساء اليهوديات (التي نتجت عن حريق غير متعمد، وإن كانت الحارسات قد رفضن فتح البوابات لأنهن ووفق منطقهن لم يتلقين أوامر بذلك). وترفض القول أنها أمية فيما يبدو غير مفهوم أن لا يقدم عشيقها السابق هذه المعلومة للمحكمة ولسبب بسيط هو الحفاظ على سرية علاقتهما في الماضي، تترك شميت لعشيقها مدخراتها القليلة ليسلمها لابنة إحدى الضحايا وليطلب لها الغفران، والذي قد يكون قبوله بمثابة الخيانة بالنسبة للمتاجرين بالهولوكست.