كلمات عن حسناء دمشقية

قليلٌ من الناس يعرفها، فهي تنتصب على أطراف مدينة دمشق القديمة فاتنةً في عزلتها وهدوئها، لتجود على عشاقها القلائل بشيء من عبق التاريخ، تلك هي حال المكتبة العادلية في دمشق.

في الطريق إليها الذي يمتد بين حواري دمشق القديمة، ستصادف الكثير من العلامات التي تدلُّك على أنك لم تخطئ الطريق، وأن دمشق العجوز قد بدأت تبرز لك بعض معالم فتنتها العصية على الزوال، فهاهي مئذنة «العروس» تتبختر في ثوبها الأبيض، لتبهرك بغنجها وأنوثتها الطاغية، في حين ترمقك مئذنة «قايتباي» بكبريائها المعهود، عالمةً بأنك لن تستطيع ان تمر أمام قامتها المهيبة بحياد، ومن الجانب الآخر تطل عليك حجارة قلعة دمشق الضخمة، غير آبهة بمن مر ومن سيمر. من كل هذا ستعرف أنك اقتربت، وأنك لم تكن أحمق عندما سمحت لذهنك بالشرود، وتتبعت صدى خطاك الذي أوصلك دون تكلف إلى غايتك.

إلى جانب المكتبة العادلية، تستقر المكتبة الظاهرية، التي كانت في يوم من الايام ((دار الكتب الوطنية)) كما سماها الشيخ طاهر الجزائري، الذي أنهكه عشقه للمدينة، قبل أن يأتي عباقرة هذه الأيام، الذين اكتشفوا أنها بحاجة إلى الترميم، فجعلوها أرضاً خراباً. ولعل هذا كان من حظ شقيقتها العادلية، التي فتحت صدرها لتستقبل كتبها وموظفيها وروادها... ولتنافسها أيضاً في إظهارا المفاتن للزوار.

عندما تدخل فناءها الواسع، لن تستطيع أن تمنع نفسك من الانبهار، وخصوصاً أن عيوننا نحن الذين تربينا في أحياء السكن العشوائي، ووسط الطرقات المحفَّرة التي تتميز بها دمشق الحديثة، لم تتعود على كل هذا التناسق والجمال. سترى قصيدةً بصريةً تمتزج فيها الجدران والأبواب مع أشجار النخيل والحمام الذي يخطر بسلام وثقة، وستدرك أنك بين ذراعي حسناء رحيمة، تعطيك نفسها وتغدق عليك بجمالها دون مشاكل أو تعقيدات، ولعل إدارة المكتبة وموظفيها قد أدركوا طابعها هذا وتماثلوا معه، فجعلوا مكتبتهم مفتوحةً للجميع، يرتادها القارئ دون بطاقة اشتراك أو رسم تسجيل.

في قاعة المطالعة الهادئة، ستجلس وحيداً، أو بصحبة عدد محدود من القراء، بعضهم من طلاب الجامعات، والبعض الآخر من العجائز المتوحدين، الذين قرروا على مايبدو تقضية ماتبقى لهم من أيام في هدوء وسلام هذه المكتبة، الذي يختلف كثيراً عن ضجيج واضطراب المدينة. ستغرق في مطالعتك عالماً بأن شيئاَ لن يعكّر عليك تركيزك، اللهم إلا إذا قاطعك هديل حمامة شاردة, أو خرير مياه نافورة المكتبة، أو صدى أذان الجامع الاموي, ربما ستخرج إلى الفناء من جديد لتدخن سيجارةً وأنت جالسٌ على حافة النافورة، وتشرد قليلاً مفكراً بأن الحياة ليست بذلك القبح الذي نتصوره.

منذ ثمانية قرون، بناها الملك العادل الأيوبي قرب قبر أخيه صلاح الدين، آملاً أن يخلّد ذكره بذلك كما خَلُدَ ذكر أخيه، وبعد سنوات طويلة جاء الظاهر بيبرس ليبني مدرسته الظاهرية قربها ، لكي ينام فيها نومته الاخيرة قرير العين، والكل استقروا قرب المسجد الجامع الذي بناه الوليد، مدغدغاً به عظمة وكبرياء امبراطوريته العظمى، والذي احتفظ رغم ذلك بشيء من ذكرى رأسي يوحنا والحسين. فلنعترف إذن بأنه لا مدينة كدمشق يكون فيها التاريخ متواجداً بلا زخرفة أو تصنع في قلب الحاضر.

ستهز رأسك منتشياً بهذه الخواطر، ولكنك ستدرك بعد قليل بأن الوقت قد مرَّ بسرعة، وأنك مضطرٌ لمغادرة المكتبة، لأنك لن تستطيع للأسف أن تقضي نهارك كله فيها. ستتركها وأنت واثقٌ بأنك ستعود إليها قريباً، وستمشي بتمهل في دروب المدينة القديمة التي خددتها خطوات عشرات الأجيال التي مرت عليها قبلك، وعندما سترجع إلى واقع المدينة المعاصرة، وعندما ستشتم من جديد روائح عوادم السيارات، وتغرق مرةً أخرى في دوامة التلوث البصري والصوتي، ستعرف أنك تركت جزءاً من ذاتك هناك، وستجيب على من يسألك عن سبب ترددك المتكرر على المدينة القديمة ومكتبتها العادلية، بأنك قد ضيعت قلبك ذات يوم هناك، وربما لن تستطيع أن تجده من جديد.   

م. س. الكيال ■

آخر تعديل على الجمعة, 02 كانون1/ديسمبر 2016 17:42