خليل صويلح خليل صويلح

لنؤجل البلاغة قليلاً.. ولنتحدث عن دمشق الأخرى

حسناً!.. لنتحدث عن دمشق التي نعرف، ونؤجل قليلاً حصة البلاغة التي تغري العابرين.لنكف قليلاً عن استعارة المفردات الجاهزة من نوع: دمشق مدينة الياسمين،  أو دمشق التي تغفو على كتف بردى،  أو في أحضان قاسيون. كل هذه الرسائل وصلت باكراً، ولم يعد صندوق البريد يستوعب مزيداً منها.

لنتحدث عن حصتنا من التلوث والضجيج، والقبح البصري، ونخفف قليلاً من إعجابنا بحارات دمشق القديمة حيث «تتعانق الشرفات بحنان، منذ خمسة آلاف سنة من الحضارة». ولننس قليلاً عبارة: «أقدم عاصمة مأهولة في العالم». كل ذلك جيد لموضوع إنشاء عابر، لاشك أن من سيكتبه سوف يحصل على علامة تامة مصحوبة بتصفيق حار.

لنتحدث عن دمشق اليوم، عن حياتنا المحكومة بالخواء والضجر، دمشق التي فقدت هويتها في وضح النهار، دمشق التي تخلت عن مقاهيها وبساتينها وغوطتها، لتتحول إلى بنوك ومصارف ومحلات لبيع أجهزة الخليوي.

حسناً، لنقل أننا تجولنا في دمشق القديمة، ومررنا على تخوم قلعتها، ثم تناولنا الشاي في مقهى النوفرة، ثم عبرنا سوق الحميدية، وسوق البزورية، وشممنا رائحة التوابل، ودخلنا في عمق حاراتها القديمة، وصفّرنا مدهوشين من جماليات الأسواق الشعبية، لكن كل ذلك لن يخفي الصورة الأخرى للمدينة، صورتها المعلنة على شكل أبراج قبيحة، وأماكن تفتقد الألفة وحاجات الكائن العادي ورغباته. هكذا بعد أن خسرت الطبقة الوسطى موقعها بالضربة القاضية، وانسحبت من الحلبة إلى غرفة الإنعاش، وربما إلى ثلاجة دفن الموتى، تكشفت المدينة عن وجه آخر، وواجهة ضخمة لكل ما هو سلعة، فهنا لكل شيء ثمن، وصار من الضروري كي تعلن عن وجودك، أن تمر أولاً، على جهاز «الكاشير». فعبر هذه العملية لن يخضع الآخر للغش في ثمن السلعة أو نوعها، إذ أن نظرة واحدة تكفي لتقييم مكانتك ووزنك الاجتماعي والاقتصادي، والجغرافيا التي تنتسب إليها، بعد عملية فرز سريعة. هكذا افتقدت المدينة إلى جمال الحياة الشعبية، وتحوّلت الأماكن القديمة إلى جدران للعزلة، تحمي طبقة جديدة، لا ترغب أن تتلوث ذاكرتها بالرائحة الشعبية إلا بالمعنى السياحي الصرف، والعبور الخاطف، وفي المقابل تبني جداراً عالياً يمنع تسرّب لغة الطبقات الدنيا خارج حدودها الإقليمية التي أخذت تضيق بها تدريجياً. أماكن تُغلق أبوابها، لتعود بعد أشهر بواجهة جديدة ولامعة، تعلن عن هويتها الجديدة وذاكرتها البيضاء. حتى باتت الأماكن الشعبية تحصى على أصابع اليد الواحدة.

كانت الموجة الأولى لعاصفة محو ذاكرة المدينة، قد بدأت من منطقة الربوة، ثم اجتاحت وسط المدينة، وانتهت بالغوطة.

دمشق اليوم بلا مقاه شعبية، وحتى ما تبقى منها أخذ يبدل هويته وتعرفته الشعبية «مقهى الروضة مثلاً»، والأمر ذاته بخصوص المطاعم والمنتزهات والحدائق والمسارح ودور السينما، وكأن أقدم عاصمة مأهولة في العالم تحولت فجأة إلى واجهة عريضة للمتاجر، حتى أن المرء يعتقد للحظة أنه يتجّول في  شوارع اليابان أو كوريا لكثرة محلات بيع أجهزة الخليوي، والشاورما، والصيدليات، وصراحة ليس لدي قدرة على تحليل العلاقة السيكيولوجية بين الخليوي والشاورما من جهة، والصيدليات من جهة أخرى. وكأن المعادلة هي على الشكل التالي: ثرثر على الخليوي، حتى تصاب بالصداع، ثم أدخل إلى أقرب صيدلية، وتناول كبسولة من العيار الثقيل، بعد وجبة طعام خفيفة!

في شوارع دمشق وضواحيها، بإمكانك أن تراكم صوراً لا تحصى للقبح البصري في العمارة، إذ تتجاور أفكار هندسية متنافرة، تفتقد الحد الأدنى من الانسجام البصري، ما يجعل حاسة النظر مشّوشة، وهي تواجه كتل الاسمنت المكشوفة، والألوان المتنافرة، على مستوى البناء الواحد، والجسور المعدنية التي تربط الشوارع، فما بالك بمزاج المدينة بأكملها، خصوصاً في الضواحي التي هي أقرب ما تكون إلى العشوائيات منها إلى السكن الشعبي ومتطلباته الإنسانية.

لماذا افتقدت دمشق روحها الشرقية، في مخططات معمارية مرتجلة، دون أي حس بالمسؤولية أو الجمال؟

ولماذا لا تنهض ورشة صيانة للبيوت القديمة المتهالكة، في مخطط عمراني عصري، يحافظ على اللمسة الشرقية للعمارة، وينظر بعين أخرى إلى الحداثة ومتطلبات العصر، بعيداً عن عقلية السماسرة والمقاولين، وأصحاب الصفقات العابرة؟

دمشق ليست للبيع، وإن بدت للبعض ممن يفتقد الحد الأدنى من الروح الوطنية، مجرد مزاد علني! 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 30 تشرين2/نوفمبر 2016 11:10