ياسر عيسى ياسر عيسى

علَّ الرسائل تنمو!

لم تجد تربة خصبة لتزرع رسالتها، فقررت زرعها وإن على إسفلت المدينة.. من يعرف علَّ الرسائل تنمو؟! الشَّابة (خ. أ) الطالبة في كلية الأدب الفرنسي، ضاقت بها واقعية بلزاك، فأقامت مفاضلتها الخاصة، واختارت الرَّحيل رمزاً في قصائد بودلير ومالارميه..

على طاولتها في الغرفة، تركت وراءها أثراً من الكلمات: «أحبك، لا تنسني، وأعتذر لأنك لن تراني ثانيةً»، وبعدها وضَّبت هودجها في الليل وتركت المدينة الجامعيّة آخر طلل لها في الجاهلية المعاصرة. 

أيُّهما كان الأقرب.. الموت الحقيقي أم الحياة المُزيَّفة؟

هوت الإجابة كصاعقة من الطابق العاشر للوحدة الرابعة عشرة.. القضيَّة قضيَّة صفة.

ما الذي حدث؟!

أسرار لن يفصح عنها السَّفر الطَّويل والمُضني على الطرق التي لا تنتهي إلينا، لذلك لا بدَّ من أن نتلفَّتَ إلى المحطَّات التي عبرتنا حينَ كان وجودنا اغتراباً مستمدّاً من تفاعلات الأقنعة الجبريّة مع وجوهنا العذراء.. النسخة الأصل من الإنسان المكابد للتعديلات الوراثيّة على جيناته الوجوديّة وحقيقته، لكي نعرف.. علينا أن نُصغي بإمعان إلى الحياة السَّاكنة في أعماقنا، نسـتشــفُّـها من وراء التَّراكمات المُسدلة أطواقاً من السَّتائر على زجاج النوافذ المُطلَّة على جوهرنا..

وهناكْ، حيثُ الغور الإنسانيّ، نتلمَّسُ أبعادَ الرُّوح، عطشَها، شوقها الجَّارف للتحققّ المُتعذّر، الرَّغبة بالعودة من نزوحنا التّاريخي عن التلقائيّة والنَّشوة والجَّدارة هناك، قبل أن نخسر بُعدنَا الثّالث في معركة غير عادلة، وعندما كُنا جزءاً من اللون والصّوت والحركة، إنسان ما قبل التكلُّس، ما قبلَ الحذف والإضافة، ما قبل النَّدبات الحادّة الطارئة على بَشَرة الاطمئنان، حينما كانت الإنسانيَّة لا تزال طفلةًً في مهد الطبيعة.

سيطول التمعُّنُ وتجلو الصورةُ، سيربكُنا الوضوحُ ويؤلمنا الإشراق، إنَّه جُنونُ الصَّفاء مُباغتاً عقلَ العَكَر، الرُّؤية ُمؤلمة ٌبلا شك، ربما لأنها تنكسرُ كالضَّوء بين وسطين، التمددُّ المفاجئ لإنسان العين للالتقاط التفاصيل التي كانَ نقصُها بتراً للعناوين الكبيرة.

فلندقق جيداً.. صحيحٌ أننا قد ننفر في البداية ونحاول استرجاع الهُدنةَ مع العمى، وأنَّ المحركاتُ العملاقة للإلفة والتعوّد ستجدّفُ عكس اتجاه المغامرة الهيّابة، وأنَّ جلال الموقف سيستنفرُ الهربَ اللاإرادي ويجعلنا كذراع  لـُذعَت على حين غرَّة.

ولكن مهلاً.. لا تُشيحوا النّظر، فالمسألةُ لا تعدو أنَّ عدسةَ الصَّواب تتضيَّقُ لكي نستطيع أن نركّز على المشهد المنسي والمدفون تحتَ ركام ثقيل من التزوير .

هناكْ، فلنتأمَّل وجوهنا ً كما تظهرُ في مرآة نادرة، لا تقابلنا، بل تسيرُ معنا في الاتجاه نفسه لنقابل ذاتنا من خلالها.

هناك، تذكَّروا كم هي الكلمات التي لم تتسن لنا الفرصةُ لقولها، ولا لتركها على طاولة، كم هي الرَّغبات والأُمنيات المحتجزة في صناديقَ معدنيَّة أُوصدت بإحكام.

لقد وصلنا، هذه هي الصناديق السوداء للطائرات البشريّة التي تحتفظ ُ دائماً بما يفسّرُ حطامها،  وهناك يوجد الصندوق الأسود  لـ(خ .أ)، أعثروا عليه.. اقرؤوا ما بداخله، هناك عادة  تختبئ الظروف الجانية،  حاكموها،  فحتّى الظروف عندما تقتلنا ينبغي أن تخضع للمحاكمة.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 22:43