بول إيلوار.. غنائيات العاشق الجسور
«أيتها الحرية/ على كل جسد ممنوح/ على جبين أصدقائي/ على كل يد تمتد/ أكتب اسمك/ على زجاج المفاجآت/ على الشفاه المصغية/ في ما يتجاوز الصمت/ اكتب أسمك».. بعد احتلال باريس وامتداد غشاوة الضباب النازي، أصر الشاعر بول إيلوار على المقاومة، على البقاء في عاصمته فكتب: «على جدران باريس كانت تنشر إعلامات وتهديدات أو قوائم رهائن تبعث الرعب لدى البعض والخزي لدى الكل».
باريس لم تعد تغني في الشوارع، شعبها يتعرض كل يوم إلى موت جديد، لكنها تقاوم. فكل الذين عاصروا إيلوار أدركوا عمق فهمه لمعادلة «نفي الظلم»، ولمسوا إيمانه القوي بحقيقة الشعر، فكان يذهب من حي إلى حي ومحفظته في يده مثقلة بأوراق محظورة، وبمنشورات سرية، متعرضاً كل يوم إلى أن يتعرف عليه ويوقف ومنذ صدور «شعر وحقيقة» الذي ضم قصيدة «أيتها الحرية» كمنشور خطير، صار يبدل سكنه كل شهر ولا يحمل معه إلا تلك الأوراق المدعوكة التي ينقل عليها مسودات قصائده.
«منع تجول/ ما العمل.. كان الباب محروساً/ ما العمل.. كنا محبوسين/ ما العمل.. كان الشارع مسدوداً/ ما العمل.. كانت المدينة مقهورة/ ما العمل.. كانت جائعة/ ما العمل.. كان قد هبط الليل/ ما العمل.. تعانقنا». بول إيلوار أحد أهم شعراء الحداثة ويعتبر حالة خاصة إذ كان أول من قدم أعمالاً ظاهرها بسيط وسهل، قصائد قصيرة، مكتوبة بلغة عادية جداً، صورها واضحة سلسة وتطرح مفهوماً عميقاً لم يحدث في حياتنا ومن حولنا عن الحب عن الثمار عن الحيوانات عن المقاومة عن البشر عن الحرية، أعمال حظيت بجاذبية خطيرة بإعجاب من القراء إعجاب لعله أقرب إلى الولع لإيلوار الذي نشأ وسط عمال مناجم الفحم وأصيب بداء برئتيه منذ الصغر، وتعلم في المدارس الحكومية وعند بلوغه السادسة عشرة غادر إلى مصح جبلي فيما بعد انضم إلى الحركة السريالية مع بيكاسو وسلفادور دالي وغيرهما من أشعار تلك المرحلة قصيدة «العاشقة/ إنها منتصبة فوق أجفاني/ وشعرها في شعري/ لها شكل يدي/ لها لون عيني/ إنها تغرق في ظلي/ كحجر في السماء/ إنها دوماً مفتوحة العينين/ ولا تدعني أنام/ أحلامها في سطوع النهار/ تجعل الشموس تتبخر/ تجعلني أضحك/ أبكي وأضحك/ أتكلم وما عندي ما أقول».
انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وظل مساهماً فعالاً للحركة السوريالية. غادر فرنسا في جولة زار فيها العديد من البلاد، بعد عودته أصدر «العينان الخصبتان» وبدا شعره أكثر تأثيراً وأكثر اضطراماً وأكثر التصاقاً بمشاعر الناس لذلك ظل يتمنى انهيار الأبراج العاجية الأشد حصانة، وظل يعمل على إحياء معادلة جديدة، مفهوم مختلف للكتابة وقبل كل شيء للشعر. كما يقول: «الذي يجب أن يكون حراً إذا أريد له أن يكون صادقاً». «الليل لا يكون أبداً كاملاً/ هناك دوماً/ بما أني أقول ذلك/ بما أني أؤكده/ في نهاية الشجن شباك مفتوح/ شباك مضاء/ هناك دوماً حب ساحر/ رغبة تستطلب التلبية/ جوع يستطلب الشبع/ قلب كريم/ يد ممسكة يد مفتوحة/ عيون متنبهة/ حياة هي الحياة الواجب أن تتقاسم».