«تياترو» خشبة في البال.. وفكرة!!
للمرة الثانية يشدّ تياترو رحاله.. رحاله! يالسخرية الوصف وعبثيته! أذكر ويذكر الكثيرون أننا عندما بدأنا في حي الشهبندر، صغت وتأثرت بتعبير شعري يقدم للطموح والحلم اللذين من أجلهما كان تياترو. كتبت وقتها في البروشور: «صغيرة هي خطواتنا.. صغيرة هي أحلامنا.. نبني قمراً من حوار.. نبني كواكب من ليل الزمان.. ننسج ذاكرة ومكان»، والآن وبعد خمس سنوات تربكني فجاجة اللغة، أضطرب من صدق الوصف اللغوي. للمرة الثانية يشدّ تياترو رحاله.. رحيله، رحلته، ارتحاله، ترحّله.. أهو التباس في الحلم؟ أم طفرة تتماهى فيها المفاهيم وتختلط؟
نصّر «فعل الصّر والإصرار» ترحّلنا إسفنجاً رخيصاً فقد طراوته من كثرة التلزيق، أرواحاً واجمة، خامدة، تكابر مصيرها.. أنصاف مرايا هشّمها التنقل، تزدري قطرات الدم التي تسيل عليها، تئن كغانية سلبها الزمن بريقها، تُحمل بأناة غير مجدية، للمرة الثانية، من أستوديو تدريب، كان يضج بصراخ المشرفين على تقاعس الشباب، بموسيقى الجسد، بورشات العمل التي تتوق للخشبة المنتظرة بشغف، مَراوِح، إكسسوارات تحولت فجأة إلى خردة مضحكة لا معنى لها عندما تجردت من وظيفتها في بناء المشاهد. «مدام شو هي؟ كبّا؟ يسألني مارك. أتأملها ويتقمصني رعب العجائز من فقدان مقتنياتهم.. لأ خليّا.. بتلزم.. يحملها، ويضعها في الصندوق»، وها هي الآن تُرمى، بأناة في مستودع بارد، غير آمن، في ضواحي دمشق، تبرّع به أحد الأصدقاء. أقمشة وستائر تُنزع، ضاعت هويتها من كثرة تنوع الاستخدام، صوبيات غاز لم تف يوماً وعدها. «يا مدام والله مافي غاز، درت الدنيا وما لقيت... مو صحيح أبو علي... أنا متأكدة إنو إذا بدك، بتلاقي، ولاّ بتحب إنزل أنا دوّر ولاقي متل هديك المرة.. بذمتي مالقينا... ما تحلف بذمتك ، بتلاقوا». رنين الهاتف المتواطئ.. أطفال تياترو.. ماذا؟ أتوقف جلجامش؟ جلجامش يا سرّ الخلود، اشهد هذا الموت.. أطفال جلجامش.. أوقفوا هذا الزمن قليلاً ريثما تلملمون حلم جلجامش وحلمكم.. رنين آخر.. وآخر.. مشرفو تياترو وأساتذته.. صانعو مشاريعه.. أصدقاء عاصروا إنهاكاته اللذيذة.. يأتي حسن من الإدارة: مدام... إنانا على التلفون تبكي. قلت بنزق موارب: حسن تصرف أنا مشغولة. ذهب حسن ليواسي طفلة، صديقة، شريكة. «حسن أنا لست مشغولة.. أنا.. صمت.. وصرخة مكتومة تغص بالبكاء والقهر والغضب والندم»..
مي.. والخشبة؟ تمتم شادي.. هذه الخشبة المجدّدة ليست لنا.. خشبتنا فكرة. خشبتنا تياترو وتياترو ليس مكان! صمت.. توارى عني غاضباً وذهب يكمل رحيله.. لو لم تبتلع شتيمتك يا صديقي.. أعلن شماتتك، أقذف بها في وجهي.. أنا أسمعها.. تنسل بمكر، بطيئاً، تجوب داخل روحي المتفحمة. أنت أيها الفتى الذي كنت أول من لامس رائحة الخيانة، أيها النبيل الذي ارتأى أن يصمت الآن بعد أن يئس من جهره ومن ضياعي وتعنتي وعدم إدراكي أن هكذا شريك مهما بذل من جهود سيعطي شيئاً بيد (وقد أعطى الكثير)، ويأخذ شيئاً باليد الأخرى (أخذ كل شيء فقد صار مديراً للمكان كله ليحميني)، وها هو يأخذ المكان بأسره دون أية لحظة صدق مع الذات أو حرج أو نزاهة.
فقدت بوصلتي يا شباب، وأنتم تعرفون الضغط الذي مورس عليّ، كان تياترو يضيع من بين أناملنا ويا ليته ضاع وقتها. هربت إلى رصف الكتب والحكايا والشخصيات التي نتوق لملامستها، للبحث في عوالمها، لمحاولة التقاط شيئ من صدقها وقوتها ووسائل دفاعها كي نكتشف عبرها ذواتنا الهشة وهذا الصدأ الكتيم المتراكم عليها. كتمتُ غصتي وتصنعت القوة والقدرة الخرقاء كعادتي، وأخفيت هذا الـ... ماذا أسميه؟ هذا النزَّ الخفي الذي يجتاح كل خلية فيّ، والذي، جدياً، فقدت القدرة على تمييز مصدره. أهو من القلب الذي ذبحته الخيانة؟ أم هو في الجسد الذي أنهكه الندم في التجائه الواهم من أنياب وبراثن بدأت تُشحذ، وتتحيّن فرصة الانقضاض؟ أنياب وبراثن أكثر تنمقاً وذكاء، براثن لم تكن تعي حقيقتها ولكنها بالتأكيد تعي أن مشروعاً مسرحياً، لا يعنيها على الإطلاق، وأنها لم تقرأ في حياتها مسرحية واحدة، وهي أساساً تكره حضور المسرح، وكانت تسخر من («هذا كله» مع إشارة استخفاف باليد اليمنى ونظرة ذئبية جميلة) وتبطن سخريتها بالحب والتعاطف، وتجهر بكل بساطة وصراحة عن عدم اكتراثها بالشأن الفني والثقافي الذي أحمله طالما أنه لا يدر مردوداً مالياً، بل على العكس، براثن تملك بالتأكيد من الخواء الداخلي ما يجعلها تنشد أهميتها وتجد «بريستيجها» في مشروع الغير. بينما وعلى الضفة الأخرى، هناك هذا الغير.. صديق وامرأة! تخلت عن هذه الأضواء كلها، تنازلت ببساطة وبقناعة تامة عن أمجاد وإغراءات برّاقة ومتاحة، لتلحق خيطاً من دفء، كانت قد بدأت تضيّع ملامحه فيها.. خيطاً من نور لا يراه من يعيش في ظلام الزيف والكذب والادعاء.
راهنت بحياتها كلها (ويعرف القريبون معنى هذه الكلمة بالتحديد) من أجل فكرة وحلم تُحقق بهما بديلاً حاسماً لصراعها الداخلي بين الضوء الزائف والعتمة الباردة، كالمازوشي الزاهد (أخجل من المبالغة في التشبيه وأصّر عليه) الذي أراد أن يثبت صحة الصحيح في زمن الاختلاط، وبدأت تسعى كدبيب النمل لملاذ يأوي إليه أشباهها ومريدوها، تتحّصن بهم ويتحصّنون بها من التُفه الكامد هناك.. على الضفة الأخرى. وبدأ الحلم الدونكشوتي يكبر ورؤيته تتضح أكثر، وداخله يزداد صفاء ويقيناً.
إلى.. إلى أن بدلّت بيديها هاتين الملك بالملك، وجلبته إلى كرمها. وأرى نفسي هنا مضطرة لعرض ما جعلني أتخذ قرار ترك المكان، والبحث عن مكان آخر، لكثرة الأقاويل والأكاذيب التي تصغّر من شأن وأهمية هذا المشروع، ومن شأني وأهميتي في اتخاذ قرار الخروج: «مشروع فاشل وعاجز مادياً»، «ذهبت لأنها عجزت»، «تريد أن تجعل من نفسها شهيدة»، «بدّي ربّيها»، «حيدّي نفسك أيتها المحامية الشاهدة عن قول الحقيقة»، لا.. تياترو قرر الرحيل، لأن المكان ورعاته الجدد وهم يضعون سقفاً لتياترو فرضوا سقفاً آخر لم يعد يشبهه، صار يشبه الأمكنة، طرد الناس ظلماً ودون حتى استشارة (وهو السبب المباشر)، فرض الشروط، التهديد بالشرطة، لويّ الذراع، قرص الأذن...
تياترو سيظل مستقلاً، ولن يُفرض عليه أي شرط يشبه الشروط، لن يتنازل عن سعيه لبناء مؤسسة لا تشبه المؤسسات، وتأهيل كوادر فنية تمتلك مفردات لا تشبه المفردات، أو فليتوقف. أقولها بصراحة وصدق لدرجة الشراسة: أنا لست مضطرة بعد هذا المقال أن أدافع عن صفاء وطهرية مشروع أفخر بأنه صار يملك قدرته الذاتية في الدفاع عن نفسه والاستمرار النوعي، حتى ولو كان مقره شوارع دمشق؛ وإني سأطوي الآن وبعد أن أنهي مقالي هذا صفحة القيل والقال، يكفيني فخراً أني حولّت، أو ساهمت بتحويل، مكان كان يئن باللاشيء إلى مكان فنّ، وأقول للمحبين وللمقربين قبل المسيئين: ارفعوا أيديكم عن الدفاع عن تياترو، فأنتم وللأسف تساهمون في تصغير المشروع وتحويله إلى رغبة ذاتية لتصّيد الآخر، وإلى أدوات لمآرب شخصية ولقاءات ثرثرة نسوانيّة، أرجوكم.. تياترو ليس بحاجة لدفاعكم عنه!!.
تياترو ليس مكاناً.. تياترو خشبة بالبال... وفكرة!.