لا تنسَ.. هناك أيضاً عبقرية قراءة !

أحدهم قال مرة: «إن الفيلم الجيد هو الذي تتذكر لقطة منه وليس الفيلم بأكمله»، وكذلك الحال بالنسبة للكتاب. هناك إذاً مشهد أو عبارة يرافقان المرء في حياته كجزء من ذاكرته الشخصية. عبارة تمنحك شحنة لمقاومة الخذلان والخسارة، وتساعدك على عبور مآزق الحياة بشجاعة مفاجئة. إنها تشبه من يحضنك بعنف، وأنت في أقصى حالات العزلة. من يتذكرك برسالة أو هاتف لم تكن تنتظره، من مكان ما من العالم، ورائحة الشوق تغلّف صدى الصوت ولهفته.

في فيلم ألماني بعنوان «الخطيبة»، تُزج البطلة في السجن في الفترة النازية، وخلال فرصة التنفس في فناء السجن، تكتشف السجينة وجود سجادة من العشب في زاوية الفناء، نبتت في المساحة التي تتسلل منها الشمس. تقترب منها، وتخلع حذاءها وتلمس بأسفل قدمها وأطراف أصابعها العشب بشغف وشهوة، وكأن اللون الأخضر هو الخيط الرفيع الذي يربطها بما هو خارج أسوار السجن. أعتبر هذا المشهد قصيدة كاملة، وأتذكره على الدوام، رغم أنني نسيت بقية تفاصيل الفيلم. لكل شخص مفكرته الخاصة وعباراته المفضّلة. البعض يحفظ عبارات شائعة وممجوجة لفرط استعمالها مثل «أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام». عبارة جميلة لكنني لا أحبها بعد أن صارت ماركة مسجّلة، يرددها من لا يمتلك شمعة في الأصل، وقس على ذلك. لن أكرر عبارة النفري التي ابتذلها مثقفو الحداثة الجديدة «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»،علماً أن غالبيتهم لم يقرأ النفري أصلاً.

من بين مئة بيت شعر أو معلّقة كاملة، سيبقى بيت شعر واحد أو أكثر للمتنبي وعنترة وامرئ القيس، هو بيت القصيد. أو البيت العابر للأزمنة والشعرية.

لست ممن يكتبون عبارات مفضّلة في دفاتر خاصة، إنما تستوقفني جملة ما في كتاب ضخم، وأنسى ما عداها.

أحياناً أضع تحتها خطاً كي أعود إليها مرة أخرى، فهي بشكل ما أصبحت جملتي وليست جملة الكاتب الأصلي، طالما أنها قادتني في لحظة ما إلى منطقة خاصة تلامس شيئاً غامضاً في روحي، وكأنها فتحت أبواباً مغلقة أمامي.

في جولتي الاعتباطية بين الكتب، سأتوقف عند محطات، سبق وأن سافرت إليها وتوقفت عندها بحنين ودهشة، أو كما يقول أنسي الحاج «كلمات سكاكين، جمل شفرات، نقطع بها علاقة».

ستكون محطتي الأولى، قراءة استعادية لـ«خواتم» أنسي الحاج، وهي على أية حال وليمة باذخة.

ما سأختاره من هذه الخواتم، هو ما يذكّر الأصابع بملمس الذهب:

- ما من فرق بين الشعر والحب إلا كون الأول كلام الصمت والآخر فعله.

- مما أبحث عنه في الأدب الايروتيكي قلم امرأة (امرأة حقاً لا اسماً مستعاراً لرجل) تكتب عن نفسها وعن الرجل بدل أن يظل الرجل يكتب عنها وبلسانها.

- اليد أعمق من الفم.

- تحنين الرأس كي ترى الأرضُ وجهكِ فتعرف أنها ليست دائماً سطح الجحيم.

- شمسكَ الليليّة تُخفي أرضي وتُظهر سمائي.

- معاصرونا هم دائماً ثقلاء.

- هناك أيضاً عبقرية قراءةٍ، لا تنسَ.

- أجمل الشعر لا ما تضاءلت صلته بالكلام العادي فحسب بل ما اخترع لغته مستعيداً بها زمام الفعل بالسحر.

- الهواء النقي يهبّ من أقبية العقل الباطن.

- في حميمية بعض اللحظات وبساطتها من الأبدية أكثر مما في الملاحم والأساطير.«أبدية الغرفة»، لا تلك الأفقية. أبدية النظرة العابرة. اللمسة الحارقة. أبدية دقّات القلب، الأنفاس.

- لا تطرب لصوتكَ لئلا تعكّر طربي به.

- ينبع الشعر ممن لا يدركون معاني كونهم شعراء.

- لا قيمة لشيء مما نكتبه ما دمنا نعتبر أن سلامتنا الشخصية أغلى من الحقيقة.

- يذوبون من رقة الكذب.

- كلمات سكاكين، جمل شفرات، نقطع بها علاقة. وكلمات دروع نصدّ بها أمواج الآخرين، تحمينا من محبتهم...