نضال حمارنة في ديوان «مُفاعل حسّي»: استرداد الذاكرة المكانية

تشكّل الذاكرة، ذاكرة المكان وشخوصه تحديداً، المادة الأساس التي تبني عليها الشاعرة الأردنية المقيمة في دمشق نضال حمارنة قصيدتها في مجموعتها الشعرية الأخيرة «مُفاعل حسّي»، الصادرة حديثاً عن دار عشتروت في بيروت

حيث تحتشد في ثنايا قصائدها الثماني والعشرين التي احتوتها المجموعة، المختزلة والمكثفة بشكل كبير، تفاصيل أماكن دمشقية، ووجوه أناس عبروا أو كانوا أو مروا بها، ومنها نادي  الصحافيين، وما حملته معها من ذاكرة كبيرة، من خلال هذا المكان الذي شكل لديها نقطة التقاء في القصيدة والواقع مع العديد من الأصدقاء الذين رسمت ملامحهم شعراً، مثل: الباحث الموريتاني محمد البخاري، والكاتبة السورية رجاء طايع التي توفيت إثر نوبة قلبية ، والفنان التشكيلي لؤي درويش ولوحاته، والروائي السوري خالد خليفة، وغيرهم.

في حين شكل المكان لديها بشكله المنفصل جمالية مستقلة بعيدة عن ارتباطها بالشخوص، فكان هنالك حضور لأماكن مثل: وادي رم في الأردن، أو كما نعتته بوصفه الشعبي بوادي القمر، وجبل قاسيون، وأماكن أخرى حضرت لديها في القصائد، سواء بالشكل الرمزي أو الفعلي. فبدت «نضال» مختلفة بسيطة، وبالوقت ذاته مكثفة وعميقة، تسير أحياناً باتجاه الحكمة بعيداً عن الحدث، كما في قصيدتها «وجع خافت جداً»، حيث تقول في إحدى مقاطع القصيدة: «فحم في الروح/ احتضارٌ في الجدران/ قنّاص على أوراقي/ وأنا.. أتأبط ورد الحياة».

أما الصورة في القصيدة لدى حمارنة فقد جاءت في بنائها عفوية وفنتازية إلى حد ما، كون القصيدة ذاتها لا تحتمل، بسبب الاشتغال بعناية عليها وتحريرها من أية شوائب قد تعلق، التوصيف الطويل وبناء الصور الكبيرة، فقد نسجت معظم صورها الشعرية العفوية، بخفة جملة شعرية لا تحكمها فقط معادلة اللفظ والمعنى وإنما بنية موسيقية متسقة مع البنية الشعرية للنص، لتبدو القصيدة صوتاً وكتابة، كما في قصيدتها القصيرة جداً «مفارقة»: «نارنج شفتي ينثر وجع السكر على رعشة شفتيك».

ورغم تكثيفها الكبير، تمتلئ قصيدة «نضال حمارنة» بالتفاصيل التي تمسك باللحظة في الذاكرة، وتؤثث المكان الحي بوجوه حية نابضة بما فيها من شخوص وخيالاتهم وذاكرتهم، لتخرج في تلك الصور الشعرية المكتملة مكانياً، بصور تخرج عن مألوف الذاكرة ولكنها تصبح جزءاً أصيلاً من تكوين النص وتفيض عنه جمالياً.

وبذلك تحقق حمارنة قصيدة مكتملة ليس بمستوييها الفني والجمالي فقط، وإنما في قدرة فائقة على اختزال هذا الكم الهائل من الذاكرة وتأملاتها المتعددة إضافة لتجريداتها الجمالية المتوالدة، وإلى ذلك لا تفقد قصيدتها تلك الشحنة العاطفية المؤثرة وترنو نحو أثر تراجيدي متفرد.

كما كان للشاعرة ذاتها، من خلال الـ 116 صفحة التي هي صفحات الكتاب الذي جاء من القطع المتوسط، حضور كبير في القصائد، كونها لا تزال ترتبط بحبل سري مع كل تلك الأماكن، وأولئك الشخوص، الذين كانوا المحور الرئيس في قصائدها، فعرجت أحياناً على الحديث الشعري الذاتي، باسترجاع ذاكرتها، بما فيها من شحنات إيجابية وسلبية، وما تحتويه تلك الذاكرة من ماض لا يزال يداعبها بخصوصياتها كامرأة، مثل قصيدة «مسبحة بلا خيط» التي تقول في أحد مقاطعها: «بوجهي أصفق باب الهدوء/ وأنا أخفي بدمعي وجه شاهر/ وعلى مرأى من الجميع/ أحرق ملامحي/ بضحكة لا تحتمل».