المفهوم الذي لا يزال ملتبساً «الحوار» بوصفه فخّاً للهيمنة
يعد مفهوم الحوار في ذاته من المفاهيم الجديدة والحديثة التداول في الفكر السياسي والثقافي المعاصر، وأهم الدلالات على حداثة هذا المفهوم خلو جميع الموثقات الدولية من لفظ الحوار، والاعتماد على مفاهيم أخرى مثل «التسامح» و«التعاون» و«إنماء العلاقات الدولية» و«تعزيز العمل الجماعي المشترك لما فيه خير الإنسانية».. إلخ..
فالحوار ليس من ألفاظ القانون الدولي، وعلى هذا الأساس يمكننا التعامل معه كمفهوم سياسي، إيديولوجي، ثقافي، حضاري، وليس مفهوماً قانونياً، ولقد اقترن ظهوره بتزايد حدة ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الكونيين اللذين سادا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر القرن العشرين، المتمثلين بالولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها، والاتحاد السوفيتي السابق ومن اكتسى برده. فكان «الحوار» الذي طرح الغرب فكرته، مقابلاً لـ«التعايش» الذي رفع المعسكر الاشتراكي شعاره، وتبنى فلسفته القائمة على التعايش السلمي بين الشعوب والأمم.
وأول ما يلاحظ هنا، أن فكرة الحوار مع الغرب انطلقت من الكنيسة، مما جعل هذا المصطلح/المفهوم يأخذ الصيغة الدينية، فبدأنا نسمع عما يسمى بـ(الحوار الإسلامي - المسيحي) الذي شاع كثيراً، حتى صار أول ما يتبادر للأذهان كلما ذكر «الحوار»، ولكن المفهوم في ذاته تطور بشكل دراماتيكي ليصبح أكثر اتساعاً، ففي أعقاب حرب حزيران 1967 تبلور الحوار بمعناه السياسي آخذاً اسم (الحوار العربي - الأوروبي)، حيث راح يتصدر العناوين الرئيسة للصحف في الشرق والغرب، وأصبح أكثر تداولاً بعد حرب تشرين 1973 حين ظهر العرب كقوة مؤثرة في الاقتصاد الدولي نتيجة الموقف الذي اتخذته الدول النفطية العربية أثناء الحرب مما أدى لارتفاع أسعاره عالمياً، ثم تطور الحوار ليلبس حلة فكرية هذه المرة من خلال الحوار الثقافي القيمي المجتمعي المعرفي الذي سمي (حوار الحضارات)، وكانت انطلاقته في بداية التسعينات من القرن الماضي رداً على فكرة أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد الأمريكية (صموئيل هنتنجتون) الذي قال إن: «الحضارة هي وحدة التفاعل في العلاقات الدولية، وليس الدولة أو القومية، وهذه الحضارات وعددها سبع، في حالة صراع سوف يشكل معالم السياسة الدولية في المستقبل كما شكلت في الماضي».. وهو ما سماه (صراع الحضارات)، فكان (حوار الحضارات) الذي أخذ بدايةً شكلاً نخبوياً على مستوى الجامعات والهيئات الرسمية، ليمتد بعد ذلك إلى مراكز الأبحاث ومؤسسات المجتمع المدني، ويصل أخيراً إلى حوار نخب مثقفة من جميع الأطراف، عدا الأطراف الثورية طبعاً، طارحاً فكرة التدافع الحضاري والتثاقف المعرفي والامتداد القيمي أساساً للتواصل بين شعوب الأرض، معتمداً على مرونة المفهوم وإمكان شموليته لجميع ما قد يطرح من مواضيع تصلح أن تكون عناوين للحوار.
لكن المثير للاستغراب أنه في جميع مراحل تطور هذا المفهوم، بما يرافقه ظاهراً من سعي مزعوم للداعين للحوار بين الثقافات والحضارات والديانات لتكريس وتفعيل مفهومهم، وخاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، لم ترد كلمات أو جمل أساسية مثل: «عدالة» أو «عدالة اجتماعية» أو «استعادة الحقوق الاقتصادية والسياسية» أو «وقف الاستغلال» أو «إنهاء الهيمنة» أو«مصالح مشتركة».. لذلك فالسؤال المشروع هو ما جدوى الحوار؟ وما هي غاياته؟ ومن هم المتحاورون؟ وهل يمثلون حقيقةً الأمة أو الشعب أو الدين أو الثقافة التي يتبوؤون عروشها؟
من نافل القول التأكيد أنه لكي يكون الحوار حواراً مؤثراً وينجم عنه تفاعل بناء بين الأمم والشعوب والحضارات والثقافات، يجب أن يقوم على قواعد، أهمها الندية وقبول الآخر واحترام حق الاختلاف والتغاير والعيش الكريم، والمحافظة على السمات الذاتية للحضارات ومنطلقاتها الفكرية والروحية، وقبل ذلك كله الإرادة المشتركة القائمة على العدالة دون استعلاء أو استخفاف، وإلا صار الحوار فرضاً للهيمنة وممارسة للسيطرة والإملاء من طرف على الآخر، وحينها يتحول هذا الحوار إلى غزو بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وبنظرة لطبيعة وجوهر ما يشهده العالم من تغيرات، وما يعيشه من صراعات وأزمات في مختلف الجوانب الحياتية في ظل نظام رأسمالي إمبريالي متوحش ودموي، نجد أن المسافة مازالت شاسعة بين الشعوب، وخاصة بين المركز الرأسمالي والأطراف، يزكيها ضعف التواصل الإنساني، والإعلام المسيس والمغلوط أو المضلل، لذلك فقد باتت الحاجة للحوار بين البشر مطلباً ملحاً وضرورة للعيش الآمن المستقر، وصارت مسؤولية الدعوة إليه وتطبيقه مسؤولية مشتركة بين جميع الأمم عبر قواها الثورية والديمقراطية، تقوم على تحديد الأهداف التي يجب أن يشملها الحوار، ولعل قاعدة الاحترام المتبادل للمبادئ والأفكار والحقوق، والتحلي بالموضوعية والجدية بالتعاطي هي الأساس الضامن للوصول إلى قناعات وتصورات مشتركة تتبلور على شكل نتائج قابلة للتطبيق من الجميع.
وعلى صعيدنا العربي وما تعيشه شعوب بلداننا العربية من حالة تشرذم وتمزق وفقر وبطالة وتجهيل وقمع وعبث طائفي ومذهبي، وصل إلى حد التناحر في كثير من المرات، بات الحوار بمعناه الداخلي أو الوطني سبيلاً لابد منه لتحصين الذات العربية وكياناتها الوطنية المهددة بالفوضى الخلاقة، وإصلاح المجتمع وتغيير الواقع السياسي والاجتماعي القائم على الظلم والفساد والاستغلال، لأننا لا يمكننا أن نفلح في الحوار مع الآخرين ما لم نفلح في الحوار مع أنفسنا.