اللغة والثقافة العربية والتحديات الكبرى..
للثقافة في عالم اليوم أهمية قصوى، تنبع من كونها الحصن المنيع، والمميز الأساسي لمجتمع عن آخر، وحامي وحدته وتجانسه. وتزداد هذه الأهمية عندما يتعلق الأمر بالثقافة العربية، ذلك أنها الأكثر استهدافاً من الدوائر الإمبريالية العالمية بهدف طمسها أو تشويهها أو تنميطها في أطر محددة..
لقد لعبت الثقافة العربية في الماضي دوراً رائداً في مجال الفكر والتفاعل والتواصل، عبرت من خلاله اللغة العربية على قدرة حامل الثقافة العربية على خلق الحضارة وتطويرها، وساهمت بإبداعاتها وإضافاتها الفكرية والعلمية في إثراء الحضارة الإنسانية في مختلف المجالات الأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية.. بحيث أصبحت إسهاماتها من حيث سن الأسس المعرفية للعلوم والفنون، قواعد متجذرة في الحضارة الإنسانية اعترف بها العالم أجمع. وكان للغة العربية دور مهم فيما وصلت إليه الثقافة العربية من حضور إبداعي في الثقافة الإنسانية، فاللغة هي وعاء العلوم جميعها وأداة التفسير والتغيير العلمي والروحي، ووسيلة التأثير في العقول والشعور بآدابها وسائر ألوانها وأدواتها الفنية، واللغة العربية أثبتت على مر العصور قدرتها على التواصل مع الثقافات الأخرى، فحملت الرسالة الحضارية للعرب والشعوب المجاورة لهم، إلى العالم من خلال قدرتها على التغيير والتفسير..
التغيير بما تضمنته من إبداع مكّن الإنسانية من الاستمرار في بناء منظومة معرفية وعلمية، وتمثل ذلك في الاكتشافات والاختراعات العلمية التي رفعت من مستوى تمدّن الإنسان وتحضره والارتقاء في حاجاته، ولا يستطيع أي كان أن ينكر أن أحد عوامل النهضة الأوروبية الحديثة هو التواصل الحضاري العربي مع الغرب عبر الشام والأندلس.
والتفسير من خلال شرح التراث العربي القديم والتراث اليوناني والإغريقي، وخصوصاً في مجال الفلسفة، وشرح التراث الفارسي، وجزء من التراث الهندي، الذي تعرف عليهما العالم من خلال المؤلفات والترجمات التي كتبت باللغة العربية.
واليوم، وقد أعيد الاعتبار للغة العربية بوصفها لغة عالمية عندما اعتمدتها الأمم المتحدة ضمن اللغات الرسمية الست التي يتم عبرها نقل الخطاب الأممي للعالم أجمع، باتت الحاجة ملحة لوقفة جادة لتطوير هذه اللغة وتوظيفها لتعود أداة تواصل وإنتاج، من خلال إثراء البحث في علوم اللغة وأدواتها، والعمل على استيعاب وقولبة المفاهيم والمصطلحات المعرفية الجديدة، وتكريس الحيز الأكبر من مجالها الحيوي للإبداع لأنه طريق المشاركة في ثقافة اليوم، وتشجيع البحث العلمي والمعرفي على ضوء المتغيرات والحاجات الملحة الراهنة، مثل تدريس العلوم باللغة العربية والاهتمام بالترجمة واشتقاق المصطلحات المعاصرة، وإعادة تهيئتها للنهل من ثقافات الشعوب.
ونظراً للمسافة الشاسعة التي باتت تفصل بين مستوى الثقافة في بلداننا العربية وما وصلت إليه الثقافة العالمية، بات يلزمنا جهود استثنائية لردم الهوة وتقريب المسافة مع الآخر والتواصل الإبداعي مع المتغيرات الثقافية، ولن يتم ذلك إلا عبر أدوات الثقافة نفسها، وهي المثقف والتجربة والأداة الأساسية: اللغة.