بين قوسين «اكتب واهرب»
كان الصراع بين الجنوب والشمال، بين المركز والأطراف، بين السلفية والعلمانية. اليوم ببساطة اندحرنا جميعاً،
واخترنا مربعاً ضيّقاُ كي نصفّي حسابات صغيرة بين طاولة وطاولة في المقهى الواحد، بين مثقف يعمل، وآخر يتسكع في قمامة الوقت والترّهات، وإذا بسيل من السفاهة العربية الأصيلة تندلق من مواقع الكترونية تحت بند الحرية والديمقراطية والرأي الآخر، وكأن الأمر مجرد تسلية عابرة في شبكة كلمات متقاطعة، تجمع شاكيرا عمودياً مع إدوارد سعيد أفقياً، و«مثقف» مسطح مع محمود درويش، وعريف الملاهي والمعاق ذهنيا مع أبي حيان التوحيدي.
نعم لقد فقدت الصحافة السورية عبر نماذجها هذه، روحها الحقيقية، وبات «فاوست» يتجوّل على صفحاتها بكامل شيطانيته في عرضٍ متواصل من الركاكة. الأمر في الواقع يشبه صورة سوق العتيق عند الغروب: بقايا بندورة، وخس، وبقدونس ذابل، على أملٍ صعب بزبون عابر يشتري ثلاث ربطات بسعر ربطة واحدة.
أراقب بصمت «الخلد» وهو يحفر«قصره» في التراب الطري، والجرذ المذعور يبحث عن ملجأ ينقذه من ضوء مباغت، فيغوص في أقرب مستنقع، وأذهب إلى شؤوني مشفقاً على «ثقافة» تنشأ فجأة مثل غرفة عشوائيات، تُبنى في يوم عطلة البلدية، خوفاً من «كبسة» مفاجأة من دورية شرطة.
«اكتب واهرب» شعار تسلّقه بعضهم، في غياب معايير وقوانين صارمة، تحدّد أبجديات النشر، فطالما المسألة تتعلق بحروب مثقفين، لا توجد مشكلة على الإطلاق، أما أن تقترب من ملف فساد بكامل رائحته العفنة، أو حتى أن تغامر في نقد مذيعة بلهاء تخطئ في النحو والإلقاء فستستنفر جهات عدة دفاعاً عن وجودها الإبداعي.
منذ أشهر بات يتردد اسم مغنّية ملاهي على خط الربوة، وحين كتب أحدهم عنها، وجد نفسه فجأة أمام مدير أعمالها الذي جاء مهدداً ومتوعداً، وهو في الواقع «بودي غارد» من النوع الفاخر، فانتهى الأمر بفنجان قهوة واعتذار رسمي مكتوب، ووداع حار إلى باب الصحيفة، أما أن يتعرّض كاتب ما لحملة تشويه تقودها ورشة من الطبالين، فالأمر يتحوّل إلى وجهة نظر، و«سجال ثقافي» فحسب.
مرة أخرى أشفق على هؤلاء العاطلين عن العمل والمخيّلة، فمعاركهم تشبه خلع الأسنان اللبنيّة، لا تستأهل الاهتمام، أما أن نحوّل الصفحات الثقافية لهواة أتوا للتو من بريد القراء، فتلك مشكلة حقيقية، لا تخلو من سوء نية، كما أنها تنطوي على صرف فواتير مجانية من رصيد الثقافة السورية الرصينة، والتي - كما أزعم- لم تصل يوماً إلى هذا الدرك من الانحطاط.