القراءة.. بأبعادها اللانهائية
يؤكد مونتسيكيو أن «حب المطالعة هو استبدال ساعات السأم بساعات من المتعة»..
يمكن اعتبار القراءة وسيلة اتصال ثلاثية الأبعاد. في العمق، ومنذ أقدم الأزمان جرى نقل التراث الإنساني ومفرداته إلى الحاضر، عبر وسائل عديدة أهمها الكلمة المكتوبة. ويجري في كل يوم وربما في كل لحظة، نقل المعارف والأخبار والمشاعر، وإلخ.. بين الناس، فضلاً عن التواصل بينهم وتكوين اتجاهات في المجتمع، أما على الصعيد الشخصي فالقراءة حالة فردية، تنمي وتطور الإنسان.
متعة القراءة تتجاوز (الإمساك بكتاب مِلء اليدين والإحساس بالانبهار أو الدهشة أو الاقتناع أو الدفء والبرد..) كما يتصور كثيرون. القراءة تستولد من الكلمة عوالم، هذه العوالم تبدو متخيلة ولكنها قادرة على اختراق الواقع وتوحيد أزمنة مختلفة.
«من يكتب يقرأ مرتين».. مثل إيطالي
الكتاب، أو الأدق، المكتوب، هو عالم آخر، هو نموذج حياة، عالم مصنوع من الكلمة، والكلمة مخلوق بسيط محدد الحروف، يبدو ضعيفاً، يستمد القوة من الدلالة التي يحملها. الكلمات في النهاية أفكار، والفكرة تصبح قوة مادية عندما يتبناها العديد من الناس، عندما يتشاركونها، والمشاركة لها وسائل عديدة، ولكنها هنا تختزل بفعل القراءة، يتحول هذا الفعل إلى حوار، بين عقل المتلقي (القارئ) وعقل منتج الفكرة (الكاتب).. حوار مع أفكار إبداعية سبقت القارئ، لأن فعل الكتابة سابق على القراءة. يتحول الحوار هنا، إلى علاقة ثلاثية الأبعاد. فمثلاً قام ماركس باكتشاف قارة جديدة، هي «التاريخ»، حسب تعبير لوي ألتوسير، فنقد الاقتصاد السياسي الكلاسيكي معتمداً على ثلاث مصادر (الاقتصاد السياسي الإنكليزي -الفلسفة الألمانية -والاشتراكية الطوباوية الفرنسية)، كذلك كان أرسطو رائداً للفكر حتى جاء ديكارت.. الخ.
تمثل القراءة بهذا المعنى حالة إبداع، فهي تقارن بين نصوص متعددة الأزمنة تجمع بينها قرابة ما، موضوعها مثلاً، تصبح الأزمنة قابلة للاختزال في فعل الكتابة وما ينتج عنها من أفعال أخرى أولها «القراءة».
«صادِف صديقاً قديماً»
للقراءة وظائف متعددة، معرفية نفسية اجتماعية.. ومهما كانت الأهداف والغايات المستهدفة والمشتهاة من القارئ، تظل المتعة هدفاً بحد ذاته، وهذه المتعة غير خالية من المسؤولية، بالدرجة الأولى بالنسبة للقارئ، الذين يعيدون قراءة كتاب أحبوه يعرفون ذلك جيداً، يتعرفون على أبطال كتبهم، وقد يصبحون أصدقاء، ينضجون معاً، وربما يغيرون موقفهم من كثير من الأشياء في كل مرة.. وكما تقول الحكمة الصينية: «اقـرأ كتاباً للمرة الأولى تتعرف إلى صديـق، اقرأه مرة ثانية، تُصادف صديقاً قديماً»
يصدق هذا في الأدب أكثر من غيره، ولكنه يتعداه ويتجاوزه، فأحياناً يكون البطل في الكتاب هو الفكرة نفسها. ويمكن لنا أن نقرأ لغايات أخرى عديدة، كزيادة المعارف والتعلم.. الخ ولكن في الأحوال كلها، عندما نقرأ نقوم بتمرين وإنعاش قوانا الخلاقة ذاتها.
من هو القارئ؟
القارئ النموذجي، هو قارئ متعدد الاحتمالات حسب ما يرى د. فيصل الدراج. قارىء محتمل: قد يكون مضمراً، أو متلقياً، سلبياً أو فاعلاً. عندما لا تثير الكتب الأسئلة، بل تعمد إلى إرضاء الغريزة، فإنها غالباً ما تلقى قارئاً متلقياً سلبياً، تصبح القراءة وهمية بين طرفين وهميين. أما عندما يتحرر القارئ من الاستظهار والتلقين ويعتبر القراءة حواراً وهو طرف في هذا الحوار، تكون القراءة فاعلة. تُحوّل القراءة الفاعلة الكتاب إلى نص، ولا يرحل القارئ إلى الماضي دون أن يصطحب معه الحاضر، ومعايير الحاضر هنا تمد العمل بتاريخيته، أي نصل إلى قراءة النص في سياقه التاريخي.
عُزوف الناس عن القراءة ظاهرة تؤرق من يهتمون لأمر الثقافة والفكر والمعرفة كلهم، وقد أصبحت هذه الظاهرة، حسب شواهد كثيرة، عالمية، ومتعددة الأسباب، انشغال الناس بتدبير أمورهم المعيشية، طغيان وسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون وفيديو وإنترنت.. بحيث تقدم المعلومات (جاهزة) دون أدنى مجهود يبذله المستمع أو المشاهد، والاستعاضة عنها بالمشاهدة الحسية والبصرية والصوتية أو ما يسمى (الكسل الذهني)، غلاء أسعار الكتب، وتقصير البيت والمدرسة، إلخ.. كما أن أغلب المتعلمين غالباً ما ينسون ما تعلموه بعد تخرجهم، وقد أشار الدكتور طه حسين مراراً إلى هبوط مستوى الجامعيين، وارتدادهم إلى التخلف الثقافي بعد تخرجهم. بالإضافة إلى الإحباطات السياسية، والمصاعب الاقتصادية التي يعاني منها الإنسان.